وضع العالم، بالطائرات الحربية للدول العشر التي شاركت مع إسرائيل في احتفالات الذكرى الخمسين لإقامتها، سقفاً لمطالبة الفلسطينيين بالحد الأدنى من الأدنى من حقوقهم في أرضهم.
مرقت الطائرات الحربية الأميركية، الإيطالية، البريطانية، التركية، السويسرية، الأوكرانية، التشيكية، التشيلية والإسبانية، فوق رؤوس الفلسطينيين المقطعة أوصال مدنهم وقراهم، المنسوفة منازلهم، والمحاصرين بمجموعهم في معسكرات اعتقال، والمجوّعين والممنوعين حتى من تجارة الجملة… ولم يكن أمام شتات الفلسطينيين فوق أرضهم أن ينتبهوا إلى حقيقة مفجعة جديدة: أنهم وحدهم لوحدهم، وأن إسرائيل ليست وحدها، ولا هي مدانة، أو معزولة، أو موضع ملامة أو حتى نقد خفيف.
لم تتهيّب أي دولة شاركت، رمزياً، في العرض الجوي الإسرائيلي، أمس، أن تستثير رد فعل عربيا غاضبا، ولو رمزياً، ولا هي توجهت بكلمة اعتذار أو تبرير لشعب فلسطين أو لسلطته التي تعيش على مساعداتها (باعتبار معظمها من الدول المانحة).
أما مجلس الأمن الدولي، حائط المبكى العربي منذ فترة طويلة، فيبدو انه سيوصد أبوابه بعد اليوم في وجه الشكوى، مجرد الشكوى الفلسطينية من الاجتياح الإسرائيلي المنهجي لما تبقى من قدسهم الشريفة وحقهم »التاريخي« في بضعة أمتار من هذا المتبقى في أياديهم، لكي ينصبوا فوقها ولو في أحلامهم سارية لعلم الدولة التي تتبخر احتمالاتها مع كل إيقاع أو وقوع جديد في فخ توقيع جديد.
العالم يعطي إسرائيل أكثر مما تتوقع!
فالسفير الإسرائيلي لدى الأمم المتحدة دوري غولد لم يتمالك نفسه فأبدى دهشته من نقص التأييد الدولي للحق العربي الفلسطيني في القدس.
أما تل أبيب فقد أعلنت رضاها لقلة حماسة مجلس الأمن بشأن الاقتراح العربي الذي قُدِّم بغير حماسة، وبغير ضمان لإقراره، وبغير حملة تعبئة وحشد، والذي يرمي إلى إدانة السياسة الإسرائيلية حول القدس..
لا أحد يريد أن يحرج الأصدقاء، في هذه اللحظة، ولكن لا بد من تسجيل موقف!
لقد استوعب العرب »حقيقة« أن العالم يقبل من إسرائيل سياستها بغير نقاش جدي، وبغض النظر عن اعتراضاته الضمنية عليها، لأن إسرائيل فرضت عليه منطقاً يمنعه من التفريق بين الدولة العبرية وبين سياستها.
لكل الدول سياسة، قابلة للتحول وللتبدل، للتطوير، للحذف أو الإضافة، حسب منطق التوازنات وحساب المصالح، على اختلاف الظروف،
إلا إسرائيل فهي سياستها، ونقاش سياستها يحمل شبهة الاعتراض على إسرائيل ذاتها، وهذا أمر لا يطيق أحد نتائجه.
تتناوب الأحزاب على حكم إسرائيل، متطرفة وأكثر تطرفاً، ويطرح كل حزب حاكم برنامجاً مختلفاً عن الحزب الآخر، لكن العالم يظل يقبل من إسرائيل ما تعلنه من سياساتها، فإذا حاول الاعتراض وجهر بنقده، انفتحت أمامه أبواب جهنم، وامتدت سلسلة »العقوبات« التي يمكن أن تفرض على المعترضين والتي تمتد من »نبش« مواقفهم من النازية ومحارقها، إلى ثروات اليهود المنهوبة في الحرب العالمية الثانية، وصولاً إلى الاتهام بمعاداة السامية.
إن إسرائيل أياً ما كانت سياستها فوق النقد.
لقد بلعت معظم دول الأرض ألسنتها، وسحبت من التداول الانتقادات التي وجهتها في البدايات إلى بنيامين نتنياهو وتطرفه، وهوسه بالقوة، وفظاظته، ولم تقبله فقط، بل هي أعلنت توبتها وعادت لتدافع عن »تصلبه« بالقول إنه »عقائدي« وإنه »صهيوني ملتزم« وإنه »لا يستطيع الخروج على برنامجه الانتخابي« ومضطر للتقيّد بتعهداته التي أطلقها كتابة وشفاهة والتي على أساسها وصل إلى الحكم.
على أن بعض الدول تتجاوز التراجع عن مواقفها المعلنة والموثقة في قمم سباعية وعشرية وخمس عشرية، فتتبنى بعض طروحات نتنياهو ثم تعيد صياغتها بالإنكليزية وتقدمها على أنها »مبادرة« منها.
هذا ما تكشّف الآن عن حقيقة »المبادرة الأميركية« حول النزاع الإسرائيلي مع الفلسطينيين حول المساحة التي يمكن أن تنسحب منها قوات الاحتلال لتسلمها إلى »السلطة« من أراضي الضفة الغربية.
لقد تبيّن، بصورة شبه رسمية، أن هذه »المبادرة« ليست سوى خطة وضعها نتنياهو واجتهد في تسويقها، حتى »اقتنعت« بها الإدارة الأميركية، ربما بعد تهديده بإحراق واشنطن، أو بإحراقها في واشنطن، فتبنّتها بعدما أقنعته »بالتنازل« عنها، لكي يسهل عليها تمريرها على العرب ومن ضمنهم شتات الفلسطينيين.
وتبيّن، بالتالي، أن نتنياهو قد اشترط ألا تعلن واشنطن مبادرت»ه«، باسمها، إلا بتوقيته الخاص، وعشية دخول الكنيست في إجازته الصيفية حتى لا يصيبه رذاذ الاعتراض أو المناقشة التي قد تثيرها معارضاته الداخلية، التي كشفت »ثورة« وايزمان كم أنها شكلية ولها غرض الحفاظ على صورة »الرئيس الطيب« وصاحب »القلب الكبير« و»المشفق« على العرب والإسرائيليين من »بيبي« المنعزل عن الواقع والذي خدعه مرات عدة، والذي »يعيش حالة ثقة زائدة بالنفس«.
وتبيّن أخيراً وليس آخراً أن نتنياهو يطلب ثمناً سياسياً باهظاً لمبادرته التي تنسف آخر ما تبقى من اتفاقات، أولها اتفاق أوسلو، وتتجاوز التعهدات والضمانات لتشكل »الحل النهائي«.
وبين ما يطلبه نتنياهو ثمناً لقبول مبادرته: تخفيف الحملات العربية عليه، واستئناف إجراءات التطبيع التي كانت بعض الدول العربية قد أوقفتها، ومكافآت أميركية اقتصادية وعسكرية الخ..
إنها تجارة يهودية مثالية: يبيعك من كيسك ثم يطالبك بالفوائد، فإذا تلكأت في القبول استوفى حقه من جلدة وجهك!
مع ذلك فإن استطلاعات »السلطة« قد أظهرت أن 51$ فقط من الفلسطينيين يرفضون المبادرة الأميركية التي كتبها نتنياهو والتي ينتظر الثمن لكي يقبلها!
ومثل هذا البؤس العربي لا يحتاج إلى تعليق!