تجني الدول الاسلامية عمومù، الآن، الثمار المرة للانهيار العربي شبه الشامل،
من افغانستان الى باكستان الى تركيا الى ايران فالى اذربيجان وصولا الى الشيشان، تظلل المحنة الدموية المسلمين جميعù إما على شكل اقتتال أهلي واما على شكل حروب او مشاريع حروب مع »الجيران«،
اللافت ان ذلك كله يجري بينما الاعلام الغربي (والاميركي بالذات) يتبنّى ويعمم المقولة الاسرائيلية عن »البعبع« الجديد الذي يتهدد الحضارة الانسانية اي »الاسلام«!
فالانظمة القائمة في مجمل هذه الدول الاسلامية، باستثناء ايران، هي انظمة غربية، بل ان الكيانات ذاتها انما قامت بقرار غربي في الغالب الأعم، وسياساتها غربية سواء أكان لحكمها واجهة »ديموقراطية«، ام ارتكز الى دكتاتورية عسكرية.
وهكذا تبرز تحت قوس القزح الاسود الذي يلوح في سماء العالم الاسلامي ظاهرتان:
الأولى الاختراق الاسرائيلي المنهجي الذي يتعاظم ويتخذ صيغة »المؤسسة« بقدر ما يجري تضخيم شبح »الاصولية« في الدول المعنية بينما هي تتقزم معلنة عجزها عن التحول الى »مؤسسة« وبالتالي الى دولة.
والثانية ان »البعبع« الاسلامي الذي تلوح به اليد الاسرائيلية في الغرب لاستعدائه على العرب بداية ثم على سائر المسلمين، سرعان ما تعاد صياغته في الداخل ويتم تشجيع تياراته المتهالكة على السلطة ليغدو سببù لسلسلة لا تنتهي من الفتن الطائفية والمذهبية تمزق المنتمين الى الاسلام نفسه الذي يقدم على انه »الحل«.
اي ان »الاسلام« يُشطب حتى من قبل ان تجرب »دولته العتيدة«، ويُلحق بالوطنيات والقوميات، فلا يتبقى غير الهيمنة الاسرائيلية والنظام العالمي الجديد بقيادته الاميركية.
لكأنما يتحول »الاسلام السياسي« من مشروع ذي هدف توحيدي سياسيù وثقافيù للمسلمين، الى مشروع تفتيت داخل كل دولة مسلمة، خصوصù تلك الحواضر الكبرى كإيران وتركيا وباكستان واستطرادù الجزائر والمغرب والسودان وربما مصر وغيرها،
من »المسؤول« عن ملامح شبح هذا التوجه التفتيتي: هل هو »الاسلام السياسي« بمدارسه الرائجة حاليù كإسلام ايديولوجي متشدد، ام »الغرب« الذي دفع مواجهته مع »اصولية« نحو جعلها مواجهة مع »الاسلام« ككل.. بكل تنويعاته الفكرية والاجتماعية.
لا شك في ان »المسؤوليتين« ليستا منفصلتين انفصالا كاملا.. وهناك حالات اكثر وضوحù في تحمل »الاسلاميين« وزر الاتجاه التفتيتي بصورة مريعة.. كما يحدث في افغانستان، حيث لم تهدأ الحرب الاهلية بين المجاهدين« المستقبلين بحفاوة استثنئاية في البيت الابيض منذ لحظة الانسحاب السوفياتي.
بطبيعة الحال لا يمكن اختصار التساؤلات في هذا الموضوع، ولا سيما مع انعباث هواجس طائفية دموية على مستوى المنطقة، بالسجال الدائر حول »الاصولية« تبعù للتسمية الغربية، وكم من هذه التيارات حظيت وبعضها لا يزال يحظى بدعم دوائر المخابرات الغربية ولا سيما الاميركية والبريطانية والالمانية على مدى سنوات، وهي في بعض الدول موضع رهانات لهذه الدوائر دفعت حتى النظام السياسي الأقرب في المنطقة للغرب، كالنظام المصري الى الشكوى المباشرة من اتصالات المخابرات الاميركية مع »الاسلاميين« الراديكاليين على ارض الكنانة.. وخارجها.
ثم أليس غرب لندن اليوم »عاصمة« هذه التيارات الأهم في العالم، حيث انعقد حتى الآن وخلال العام 1994 مؤتمران دوليان كبيران لممثلي التنظيمات الاسلامية؟
اذن، سيكون من السذاجة تبنّي معيار »الابيض أو الاسود« في هذا المجال.. فالاستخدام الاعلامي ل»الشبح الاصولي« مختلف في الكثير من الحالات عن الاستخدام السياسي..
اذن.. هناك خلفيات اخرى لدراسة تنامي ظاهرة التفتت داخل بعض الدول المسلمة، او ذات الشرعية التاريخية المسلمة، منها ايضù ان ظهور التيارات الدينية المتشددة، يأتي في وقت يتخلخل فيه مفهوم »الدولة الامة« الذي قامت حوله في التاريخ الحديث دول مثل ايران وتركيا وباكستان، اوانشدت اليه، فأصبح عامل توحيد قطريù في دول مثل سوريا والعراق، لم تحقق مشروعها القومي، ولكنها تتماسك كدول مركزية تحت راية شرعية المشروع القومي.
هذا الضعف الخطير في مفهوم »الدولة الامة« الذي تخطى آثاره العالم الاسلامي والعالم العربي يتحول الى أحد العناصر الاساسية في جعل الكيانات الدول اكثر هشاشة امام عواصف الاحتقان السياسي والاجتماعي والاقتصادي والطائفي.
ولعل ها هنا مكمن السر: فبدل ان يصبح برنامج التغيير هو ذلك الذي يتصدى لجوهر الازمة الاقتصادية والاجتماعية المتفاقمة غالبù بأزمة الانتماء الوطني او القومي، يحتل الجدل الدموي الواجهة مغيِّبù امكانات الخروج من المأزق، إلا بالمسكنات الاميركية التافهة والا بطلب الانقاذ والنجدة من اسرائيل القادرة على كل شيء.
فتشويه الاسلام بالفتن والممارسات الهوجاء لمعظم فصائل الاسلاميين هو اقصر الطرق لتسليم زمام امور المسلمين للوصي الغربي مباشرة او عبر وكيله الاقليمي: اسرائيل.
بعد الايديولوجيات السياسية من شيوعية واشتراكية وقومية، ها هي الدعوات الاسلامية تتهاوى، فلا يتبقى الا مشاريع من نوع »الشرق الاوسط الجديد« المرشح لأن يتمدد الى آخر نقطة بلغها المسلمون في مشارق الارض ومغاربها.