طلال سلمان

اسد في روسيا مخاطبة مصالح لا ذكريات

يعرف الرئيس السوري حافظ الأسد انه لن يجد أحداً من أصدقائه القدامى، ولن يلمس الجو الدافئ »للتحالف المبدئي الثابت« في موسكو التي يصلها اليوم، والتي ستبدو له مختلفة جداً وشديدة الغربة بل وشديدة التنكر حتى العداء المرضي لما كان »عاصمة المعسكر الاشتراكي الصديق بقيادة الاتحاد السوفياتي العظيم«.
فحافظ الأسد هو أحد أوائل الذين تنبهوا فنبهوا واستعدوا وأعدوا بلادهم لخطورة التحولات التي عبر عنها وصول ميخائيل غورباتشوف الى قمة الحزب والسلطة في موسكو الشيوعية.
ويروي بعض العارفين ان الاسد، وفور عودته من اللقاء الثاني مع »رجل التحول« في أواخر نيسان 1987 (اللقاء الاول كان في 20/6/85)، وبعد »المحاضرات« التي سمعها منه كتمهيدات لنظريته في »البيروسترويكا والغلاسنوست«، ابلغ قيادته في دمشق ان تعيد صياغة الموقف السوري سياسياً واقتصادياً وعسكرياً »وكأن الاتحاد السوفياتي لم يعد موجوداً«.
يضيف هؤلاء العارفون: لعل سوريا، وبرغم علاقاتها الاستراتيجية فعلا مع الاتحاد السوفياتي، كانت الاقل تأثراً من بين »الدول الصديقة« بالتحولات التي توالت عليه حتى اسقطته ومزقت المعسكر الاشتراكي شر تمزيق… وعندما تمت الزيارة الثالثة (في اواخر نيسان 1990)، واكبها ما يشبع الشعور بفقدان صديق عزيز، ولعل عبارات اقرب الى التعزية قد صدرت عن القيادة السورية آنذاك!.
ذلك ان دمشق قد اسقطت من حسابها، ومنذ 1987، احتمال استمرار المساعدات السوفياتية المفتوحة، او الدعم المؤثر على الصعيد الدولي وفي مواجهة الضغوط الاميركية المشجعة للتحرشات والاعتداءات الاسرائيلية والمساندة لاغراضها واستهدافاتها.
لم تكن موسكو الشيوعية تاجر سلاح، ولم تكن علاقاتها بالعرب عموماً، وبسوريا التي كانت السباقة والرائدة في هذا المجال، حتى من قبل مصر جمال عبد الناصر، محصورة ومحدودة في المجال العسكري… بل ان السلاح السوفياتي كان الترجمة الحسية لمتانة العلاقات السياسية، التي كثيراً ما بلغت حدود التحالف المعلن او الضمني، ودائماً في مواجهة المشاريع الغربية لاحتواء المنطقة العربية، والتي كانت اسرائيل رأس حربتها حتى وهي تحقق مشروعها الخاص داخل الخطة التي سرعان ما باتت اميركية بالكامل.
موسكو اليوم مختلفة، تطارد تاريخها لتمحو صورتها السابقة، وهي في موقع آخر مضاد تماماً لذاك الذي كانت فيه حتى اواخر الثمانينات، وهي تبدو احياناً وكأنها تبحث لنفسها عن موقع ولو داخل الهيمنة الاميركية على العالم، وليس بالتصادم او بالتضاد او حتى بالمنافسة معها.
لكن الرئيس الاسد يريد موسكو طلباً لروسيا وليس بحثاً عن السوفيات، فالسياسة لا تصنعها الذكريات، وهو يريد منها موقفاً سياسياً يعبر عن المصالح الروسية، ولا يطلب منها »سياسة عربية« او دعماً استراتيجياً مستحيلا، او تعزيزاً مؤثراً لقدراته العسكرية يعرف سلفاً انه لن يكون في مستوى ما يطلب، خصوصاً مع القيود الغربية (والاسرائيلية) الشديدة على بيع السلاح وتوريده ونقله وبرامج التدريب عليه، والمتخذة ضد روسيا اولا، ومن ثم ضد العرب عموماً وسوريا على وجه التحديد وبالتخصيص.
انه يخاطب المصالح المشتركة، ويستنهض ما تبقى من مشاعر العزة الوطنية الروسية، ويفيد من مواقف كتل التأثير المساندة داخل النظام (الجيش خاصة) وخارجه (الحزب الشيوعي)، وستساعده »اللحظة السياسية« اذ تبدو روسيا اليوم مثقلة بالشعور بالاهانة، بعد الحرب الاميركية على يوغوسلافيا بكل مجرياتها التي كانت سلسلة من اللطمات المتعمدة والتحقير والابتزاز بالقروض لشطب اي دور روسي حتى مع »ابناء العم السلاف« وليس في اوروبا (والعالم) فحسب.
ولم يعرف عن الرئيس الأسد انه يبني حساباته على العاطفة، او انه متسرع في تحديد مواقفه، بل هو مضرب المثل في دقة التحليل ودقة الحسابات ودقة القراءة السياسية ثم التحفظ في الاستنتاج.
وهو بالتأكيد سيعود من موسكو بالقليل الذي ذهب يطلبه منها، لها اولا، وله من بعد.
على ان هذا القليل مفيد، بل هو ضروري، في مواجهة »العاصفة« التي ينتظر ان تهب قريباً مروجة لجنرال الاغتيالات والحروب وكأنه »بطل السلام« المرتجى، والتي سوف تستعجل العرب »التوقيع« قبل رحيل كلينتون مصوّرة ان وجوده ومشاركته ورعايته اهم من المضمون الذي قد يقرر لهم مستقبلهم وليس فقط حاضرهم فوق أرضهم!.

تحية للكويتيين: الديموقراطية ليست منحة اميركية!
يستحق الكويتيون تحية تقدير على تمسكهم بتجربتهم الديموقراطية، وعلى ثبات اكثريتهم الساحقة على مواقفهم المبدئية التي يعرفون تماما انها لا تحظى برضا الحكومة، بل هم يجهرون باعتراضهم على الكثير من ممارساتها الخاطئة، في السياسة كما في الاقتصاد.
لقد فرضت الحكومة المواجهة، فتسترت على الخطأ، وقصرت في الاصلاح، وتساهلت مع الفساد حتى اتهمها بانها او ان بعضها على الأقل يتورط فيه ومنتفع منه بدليل هذه الحماسة في حماية »رموزه« تارة بذريعة الشك، وطوراً بحجة ابقاء الاسرة الحاكمة فوق الشبهات… كأنما علاقة الكويتيين بآل الصباح يمكن ان تتأثر بادانة مرتكب او بوقف صفقة مشبوهة او بعدم شراء السلاح الفاسد!.
ومن الظلم لعروبة الكويتيين ولوعيهم السياسي ولتجربتهم التي اكتوت بنيران الغزو كما باخطاء التعسف في الحكم على المعارضين او العمل لابعادهم او الضغط لاسقاطهم في الانتخابات، او التحالف المشبوه مع الاكثر تعنتا من بين »السلفيين« ان ينسب الفضل في هذه الحيوية وهذا الاقبال وهذا التمسك بالديموقراطية الى »الحامي« الاميركي و»نصائحه« وارشاداته »الاخوية«.
ليست الديموقراطية في الكويت، أمس كما اليوم، سلعة مستوردة بالطائرات من الولايات المتحدة الاميركية،
لم تكن الديموقراطية في السابق ولا هي اليوم منحة من الأجنبي،
وتصوير القائلين بالديموقراطية في الكويت وكأنهم »من جماعة اميركا« يتجاوز الظلم الى الكذب الصريح، ويتجاوز الاهانة الشخصية الى ادانة الأمة العربية كلها (وليس الحكام وحدهم) وتصويرها بأنها متخلفة عن عصرها، غارقة في سلفية قاتلة للانسان وحقوقه، وبالتالي فهي لا تستحق ان تكون غدا.
ودرس الكويت مهم جدا، من حيث المبدأ كما من حيث دلالته السياسية ثم من حيث التوقيت… فهو قد جاء في موعده تماما،
ففي بلد عربي صغير المساحة، محدود عدد السكان، عظيم الثروة، حديث العهد بالدولة بمعناها العصري وبالتجربة البرلمانية، امكن لهؤلاء الذين يتباهون بعباءاتهم وكوفياتهم البيضاء ومن فوقها »العُقل« السوداء، أن يعبروا عن ارادتهم، وان يمارسوا حقوقهم الطبيعية في اختيار مرشحيهم، وان يختلفوا في الرأي الى حد التناقض المطلق، من دون اشكال يذكر،
والاهم: انهم استطاعوا ان يفرضوا ارادتهم ويقولوا كلمتهم ويحددوا نوابهم برغم معرفتهم باعتراض الحكومة على معظمهم!
الى ما قبل يومين كان النموذج الرائج والمعتمد للديموقراطية هو النموذج الإسرائيلي!
كان العرب، في مختلف اقطارهم، يتابعون بشيء من الاعجاب، وبعضهم بشيء من الانبهار، تفاصيل التحالفات والتعارضات في الانتخابات الإسرائيلية، ثم في تشكيل الحكومة »الباراكية« الجديدة،
وكانوا يحسون بغصة مؤلمة: أمقدر عليهم ان يتجرعوا الهزيمة امام عدوهم في السلم، وعبر ممارسته السياسية داخل الكيان الصهيوني، كما في الحرب وعلى امتداد ميادين القتال؟!
وكانوا يتجرعون الحقائق المهينة وهم يقارنون (ولو للحظة) بين مجالسهم النيابية وكيف تُركب، وبين الكنيست الإسرائيلي، فيصلون الى الاستنتاج المنطقي البسيط: المجلس المشلول هو نتيجة منطقية لغياب الديموقراطية، وغياب الديموقراطية يعني تغييب الناس ومنعهم من المشاركة بالسلطة، والهزائم تقع عادة في غياب الناس لا في حضورهم.
مبروك للكويت مجلسها الجديد الذي اتسع لكل التيارات السياسية فيها من اقصى اليمين (السلفيين) الى اقصى »اليسار« الذي ما زال مقبولا واهلا للحياة، وهو في الكويت يتخذ اسم »الليبراليين« وبين رموزه المضيئة »المنبر الديموقراطي«.
مبروك لكل الذين قاتلوا بشجاعة حتى لا يكون مجلس النواب معينا او منحة من الحاكم، او من المحرر المحتل الاميركي، فحموا مع سمعة الكويت بعض سمعة العرب،
مبروك للبرلماني المتميز أحمد السعدون، ولفرسان المنبر الديموقراطي وفي طليعتهم المناضل العنيد هازم الاغتيال عبد الله النيباري وسامي المنيس وسائر رفاقهما وحلفائهما،
مبروك عودة »الابن الضال« احمد الربعي الى موقعه،
ومبروك هذا النصر المؤزر لفارس الكلمة والرأي، واحد عناوين الديموقراطية في الكويت محمد جاسم الصقر، الذي سنخسره زميلا، لكنه سيواصل »جهاده« في ميدانه الجديد وسلاحه أيضا الرأي والكلمة!
وعقبى للديموقراطيين في لبنان، لمن يريدون حماية النهج الوطني وهويته العربية، بالنضال السياسي، بالرأي والموقف والكلمة، فلا يتوفر لهم المناخ الصحي دائما.
… ولنأمل ألا يكون قانون الانتخاب الجديد »بوسطة« مضادة او »محدلة« مضادة تمسح ما كان، بذريعة ان الديموقراطية لا تقوم الا اذا صمت الجميع بدلا من ان يوافق الجميع!
طلال سلمان

Exit mobile version