لم يذهب الرئيس السوري حافظ الأسد إلى موسكو ليطلب من روسيا.
إنه يريد، وقد ذهب يطلب، روسيا.
أهم من السلاح، على خطورته، ومن المساعدات الاقتصادية، على ضرورتها، أن تكون روسيا في المنطقة، وأن تبقى روسيا في »العملية السلمية« إن لم يكن كعنصر توازن وهذا متعذر فلا أقل من أن يستفاد من وجودها لمنع التفرد أو الاستفراد الأميركي.
يعرف حافظ الأسد ما يكفي عن أوضاع روسيا الحالية، سياسيا واقتصاديا وعسكريا،
ويعرف حافظ الأسد، بالتأكيد، الحدود المتاحة للحركة الروسية، أو للدور الروسي، دوليا، وفي منطقة »الشرق الأوسط« على وجه الخصوص.
ويعرف، بالمقابل، أن لا »عملية سلمية« ولا استئناف للمفاوضات، جديا وبهدف إيصالها إلى نتائجها المنطقية، من دون قرار أميركي نافذ.
لذا فهو شديد الحرص على الدور الأميركي في »العملية السلمية«، ويعي تماما أنه »المحرّك« و»الراعي« و»الضامن« للوصول إلى نتائج، و»الضامن« من بعد لتلك النتائج،
لكنه سعى سابقا فنجح، وهو يسعى وبمزيد من الإلحاح اليوم، وبعد كل ما كان، حتى لا تكون »العملية السلمية« صناعة بحت أميركية، تحتكرها واشنطن وتقرر فيها منفردة وبالتنسيق مع الطرف الإسرائيلي ذي النفوذ الهائل على الإدارة الأميركية، والشريك موضوعيا في المصالح الاستراتيجية هنا، حتى لو لم يكن، أو لو لم يعد، حاميها ومخفر حراستها »المحلي«.
من هنا كان تشجيع حافظ الأسد الدائم للأوروبيين، بل وإلحاحه عليهم للعب دور حيوي في »العملية« وفي المنطقة، ودائما بدافع من مصالحهم… وهو لتأكيد حرصه على مثل هذا الدور قد استقبل المندوب الأوروبي (موراتينوس) مرارا وتكرارا، مع معرفته أن الرجل بشخصه لا يستحق كل ذلك الاهتمام والوقت.
أما روسيا، ولو ضعيفة ومتهالكة، فصاحبة دور لا جدال فيه، أو يجب أن تكون ذلك، فإن غابت أو سعى الآخرون لتغييبها، فلا بد من استحضارها، ومن الإصرار على دورها… فهذا الدور »مصلحة عربية«، بل هو »ضرورة عربية« إن لم يكن لموازنة الدور الأميركي، فعلى الأقل لمنعه من الاستفراد بالطرف أو الأطراف العربية.
إنه يحسم من حساب »الخصم« وليس من حساب العرب،
وكذلك الدور الأوروبي..
فالكلمة، في خاتمة المطاف، للمصالح، وليست المصالح الأميركية هي هي المصالح الأوروبية، ولا هي خاصة المصالح الروسية.
ويعرف الأميركيون (والإسرائيليون، بطبيعة الحال) ان حافظ الأسد قد رفض باستمرار، وهو ما زال يرفض أن يعتمد نهج أنور السادات في التفاوض… بل هو قد أدان الرجل (والنهج) في حياته، واستمر يدينه بعد سقوطه، خصوصا وأن السقوط قد ثبَّت النتائج المدمرة لذلك النهج ولم يلغها..
فالتنازل عن الجوهري أو الأساسي من أي قضية لا يذهب ولا يزول بسقوط المتنازل، بل هو يفرض نفسه على »الوريث« أو »الخلف«، وقد يحتاج إلى معركة أقسى مما كان مفروضا قبله لإلغائه.
وإذا كان قد تعذر على حافظ الأسد أن يحقق شعاره الأثير في »التوازن الاستراتيجي«، لا سيما بعدما أخرج السادات مصر من ميدان القضية، فهذا لا يعني أبدا الارتداد إلى تسليم الأوراق جميعا للأميركي بوصفه الأقوى بل الأوحد!
كذلك يعرف الأميركيون والإسرائيليون بطبيعة الحال، أن حافظ الأسد لا يمكن أن يقبل بمثل ما قبل السادات، لا في حدود الانسحاب الإسرائيلي ولا في شروطه، ولا في الترتيبات الأمنية أو في »مستلزمات التطبيع«… بل انهم »يتهمونه« بأنه يريد أن يثبت، بالملموس، إدانة السادات ونهجه، عمليا، بالحصول على نتائج أفضل ولو بعد دفع ثمن أفدح، نتيجة الضغط والحصار والاتهام المتكرر بدعم الارهاب!
على هذا فوجود روسيا، ولو ضعيفة، ضرورة، ليس فقط لأنها توسع هامش المناورة أمام الطرف (أو الأطراف) العربي، بل لأنها أساسا تنفي بحضورها »وحدانية« الأميركيين، وعزلة العرب دوليا، وتساعد على تحجيم الشراهة الإسرائيلية.
روسيا ليست الاتحاد السوفياتي، وليست بالتأكيد قوة موازية أو منافسة للولايات المتحدة الأميركية.. وهي قد تعرضت لامتهان كرامتها ودورها مرارا وتكرارا، وأُذلت بسبب حاجتها الماسة إلى القروض خلال السنوات الماضية، وقرار القروض أميركي حصراً،
وروسيا التي تلقت آخر إهانة في يوغوسلافيا، قبل أسبوعين فقط، لن تذهب مع العرب إلى الحرب، لكن مصالحها تقضي بأن تقف إلى جانبهم طلبا لسلام مقبول، وبأن تدعمهم بما ملكت سياسيا لعلها تعوّض، أو تحد من الأضرار التي مُنيت بها، هذا إن لم نقل إن العرض العربي كريم بما يكفي لتبذل كل ما في وسعها لكي تؤكد جدارتها به، ومن أجل روسيا أولاً وأخيراً.
إنها محاولة لتخفيف الضغوط، ولاثبات أن العالم لا يقف كتلة صماء خلف إسرائيل، نفاقا للأميركيين وتجنبا لغضبهم، واتقاء لشر الإسرائيليين.
إنه جهد متميز، نتيجة قراءة سياسية دقيقة وحكمة بالغة، لعل العرب يقتنعون أن بالإمكان بعد أن يستعيدوا بعض حقوقهم في أرضهم وفي مستقبلهم، بغير أن يسلموا بالخسارة مسبقا وأن يخرجوا من التاريخ قبل أن يُكتب!
طلال سلمان