انها الهاوية. في القعر تماماً. ينقصها فقط أن تنزف أكثر. انتهى زمن الوصف. لبنان انتهى. البعض ينتظر قيامته، على يد فرنسا، والآخر يتوقع أن يتغير لبنان قليلاً، ليضخ في عروقه القليل من الحياة العليلة.
سؤال واحد يحتاج إلى اجابات عديدة: لماذا بلغ لبنان هذه لنهاية القاتلة؟ قيل الكثير عن الطائفية والفساد والتبعية وانعدام القيم وتخلف النظام والعلة البنيوية في تكوين كيان لا يقوم بنيانه الا على التوافق وينهار اذا انعدم التوافق.. وكل ذلك صحيح جداً، ومعروف تماماً. انما الحاجة إلى السؤال لماذا؟
من شروط نجاح الدول، مستوى اداء شعوبها. يعني ذلك، أن الشعب مسؤول عن نجاحات الدول او عن كوارثها. المهمة الملقاة على الشعب هي الحفاظ على السوية النظامية، ومنع الفساد، والحكم الرشيد، ورفاهية الناس، على قاعدة انتاج معرفي، وثقافي وصناعي وزراعي وابداعي. نحن لم نكن شيئاً، ولا “الشعوب” العربية كانت بسوية “الشعب”. لذا وصلت المجموعة العربية إلى الحالة العدمية. انظروا إلى الخريطة الممتدة من المحيط إلى الخليج. الخراب عام. التشتت شامل. التخلف سائد. الحكم وراثي مقيت، او استبدادي مجرم، او تقسيمي حاقد… العرب، ما يفرقهم أكبر وأكثر مما يوحدهم. عفوا لقد استعملت فعلاً “يوحدهم”، وهم اقرب إلى أن يكونوا عصابات “حكومية”، وعلى شفا حروب “أخوية” وفي خضم تخلٍ تام عن أي قضية، أي قضية بالتحديد، لها معنى الحياة والحرية والانسانية… هذه الخريطة هي المؤهلة دائماً، بإرادتها، للاشتعال، او للانتقال من جغرافيتها التاريخية، إلى جغرافيا، تكون فيها “اسرائيل”، قائدة لحقبة، عنوانها التخلي عن كل شيء، باستثناء السلطة والمال وطاعة اولياء العالم الحر بقيادة الولايات المتحدة الاميركية.
لبنان، ليس وحده في القعر. الامة كلها في القاع. “الأوطان” كلها في ضياع. كل كيان في اتجاه. هل هذه سوريا؟ في أي مأساة هي. من المسؤول؟ أهذا هو العراق؟ بكل اسف نعم. عراق ينزف ويتجزأ. فلسطين. ماذا تبقى منها؟ دول الخليج، عقدت قرانها على اسرائيل. مصر، اين هي؟ في أي مأساة اجتماعية وسياسية؟ هل من حرية لمئة مليون مصري، ام أن القبضة البوليسية هي السلطة العليا! ماذا تبقى من ليبيا؟ عار ذاك. السودان في صدد بيع مواقعه للالتحاق بالتسوية لقاء حفنة من الدعم لسلطة عسكرية- مدنية غير مستقرة.
الجزائر، هل وجدت طريقها إلى التحرر من العبث والتسلط والفساد؟ والمغرب الذي نأى بنفسه، مراقبا الكفة الراجحة ليكون فيها. لا عرب في دنيا العرب ابداً. لماذا؟ السؤال نفسه المطروح على لبنان الذي أمضى قرنا كاملا في حفر الهاوية وها قد بلغها، بكل ظلامها وظلمها.
قامت هذه الدول على انظمة لا على شعوب. وراثة تركة تركيا كانت تقسيما، وقدمت جائزة لعائلات وأرومات وعشائر وعملاء وطوائف وخدم للاستعمار الغربي الفرنسي-البريطاني، ثم الاميركي.
ويلاحظ، من دون جهد كان، أن كل هذه الخريطة عرفت نوعاً واحداً من الحكم، هو الحكم اللاديموقراطي. الفترات الديموقراطية كانت نادرة، وقد تم اغتيالها على يدي العسكر، اسوأ انواع الحكم والتحكم والاستبداد.
لم تعترف فرنسا بالشعب. كذلك فعلت بريطانيا. هكذا تفعل اميركا اليوم، وهكذا اجترحت حكومات ذيلية لها، في اميركا اللاتينية، التي تعتبر المختبر الاميركي للحكومات الاستبدادية والعسكرية الفاسدة.
لبنان اذاً، ليس وحيداً. انما، لا بد من اجابة عن السؤال: لماذا كانت مسيرة لبنان مأزومة وكارثية، على ايدي قوى ورثت المواقع وأورثتها، فيما الحرية كانت موفورة، وبلا فائدة فالحرية بلا مساءلة: “بوب كورن”.
لا ديموقراطية في دولة بلا قوانين. الديموقراطية اللبنانية اسم على غير مسمى. الديموقراطية والطائفية نقيضان. لبنان نموذج فشل الزواج الكريه بين ديموقراطية شكلية وطائفية متمرسة وراسخة. لا شعب في لبنان، بل مجموعات طوائفية ومذهبية. أي، بمعنى واضح، لا مواطن في لبنان. هو ليس دولة مواطنين ابداً. ولأننا كذلك وصلنا إلى القاع الاخير في السياسة والاقتصاد والتربية والانتاج، وضربنا الرقم القياسي في طرق عبادة من نهبنا وسرقنا ودمر بلدنا.
المواطن اساس الوطن. وأهم صفات المواطن، انه مسؤول عن وطنه، وأنه يسأل عنه، ولا يقبل خللا او اختلال او طعنا للدستور او مخالفة القوانين، او اعتبار السلطة ملكاً، يتوارثه الاحفاد عن الآباء عن الجدود.
المواطن مسؤول ويسأل ويحاسب. القارة العربية فاقدة لهذا المبدأ التأسيسي. المواطن مسؤول عن وطنه. فهو يسائل ويحاسب، فيما الحال هي عكس ذلك. انه موضع اتهام ويسأل عن ولاءاته ويعاتب عليها أن كانت شاذة عن قادة الولاء والتبعية. اللبناني، كأي كائن عربي ممنوع أن يكون مواطناً. علماً، أن الطريق إلى المواطنة في لبنان مفتوح، بسبب مناخ الحرية، المفقود في الدول الملكية والاميرية والسلطانية والعسكرية والتوتاليتارية.
يُلام اللبناني وحده، لأن الحرية موفورة بنسبة مقبولة. لكنها حرية غير منتجة. واتساءل، لماذا يتعجب اللبناني ويندهش، من استمرار السلطة منبثقة من معاقل الطوائف والعشائر والعائلات، ويظل وفياً لهذا الارث اللعين؟ ليس من حق اللبناني أن يتذمر من هذه الطبقة، طالما يظل قابلا للرسن الطائفي والعائلي، يلف به عنقه، ويساس قيادته لزبانية الطوائف.
لا يحق للبناني التابع ان يسأل. لماذا القضاء قد تم القضاء عليه. ليس من حقه طلب محاسبة طبقة تتصف، علنياً، بالفساد والسرقة والتبعية. ليس من حقه أن يشتم فاسداً… لأنه، في وقت الحساب والمساءلة، تخلف عن ذلك. ذهب كالنعجة المدربة على الطاعة، ليضع مرشحيه الاعزاء على قلبه الطائفي او المصلحي، وانتخب سارقه ومنهكه والذي اذله حتى بلغ الذل مرتبة الدين: دين اللبنانيين هو الذل بعينه. انهم يعبدون من يذلهم.
من لا يسائل ويحاسب، لا يحق له شتم ومعارضة من انتخبه. ولا يكلف الطائفي ما فوق طاقته من الخنوع والركوع والزحف طوعية. انه يستحق هذا القعر الذي بلغه.
وحده المواطن، اللا منتمي إلى مخلفات موروثة ومفروضة، هو المسؤول، ومن مسؤولياته المحاسبة والمساءلة والمحاكمة وإنزال العقاب. حكام لبنان برمتهم، يعيشون في جنة الممنوعات، على اكتاف واعناق اتباعهم المخلصين والمخصيين، اخلاقيا وانسانياً ووطنياً.
…وكما عندنا كذلك في دنيا العرب الساجدة على قدميها والمنبطحة على جباهها، أمام من يأمرها من الخارج ويدلها إلى اسرائيل، ويمنعها عن فلسطين.
أمة تالفة منذ مئة عام. لا بقعة ضوء.
لبنان، “كومة ناس مجمعين”. لا مواطن معترف به. ولا حقوق له. ولا يسمع صوته.
أيها للبنانيون المتسامحون مع زعمائكم، “كلن يعني كلن”، انكم تستحقون هذه الهاوية. وايها العرب، تستحقون أن يقودكم الاميركي برسن، والعجب، انكم أنتم الذين تضعون رسنكم حول رقابكم.
وعليه، ماكرون جاءكم في الوقت المناسب لكم. جاء لينقذكم مما ارتكبتموه. لن يلغيكم كقوى طائفية، سيروضكم قليلاً. مشروعه، ليس مشروع الحراك في 17 تشرين. أن مشروعه يقوم على ترميم الهيكل اللبناني المتداعي، ومصالحة الأعدقاء، وإرشادهم إلى كتاب التوافق اللبناني لا أكثر.
أما الدعوة إلى عقد تأسيسي، فليس سوى نسخة، من نسخ الميثاق الوطني، واتفاق الطائف المخصي. أي، لا دولة مدنية بلا طائفية ومحاصصة. كل هذه القوى اليوم، ستعود إلى مواقع جديدة، بثياب طائفية بالية.
لو كانوا صادقين، ليتبنوا تنفيذ ما تبقى من اتفاق الطائف لجهة انشاء الهيئة الوطنية العليا لإلغاء الطائفية، على أن لا يكون اعضاؤها من وجهاء احزاب الطوائف والمذاهب والعشائر. ثم اقرار قانون انتخابي خارج القيد الطائفي إلى جانب مجلس شيوخ.
هذا المسار، يمهد الطريق امام المواطن الحاف، المنتمي، من دون وسيط، إلى لبنان الدولة والنظام والقيم والقضايا. وعندها، يبدأ مسار المراقبة والمساءلة والمحاسبة.
ليت ذلك يحصل.
ليت هذه الامة التي نكبت نفسها، تعود إلى شعوبها، لتراقب وتسأل وتحاسب.
هل هذه اضغاث احلام؟
ربما. اللعنة على هذا المصير: مئة عام من المذلة والاذلال.
يا ذلنا. يا عارنا. يا كل شيء ضدنا.