حرام ألا تعرف بلدة عرسال طريقها إلى مقدمات نشرات الأخبار في محطات التلفزيون الأرضية والفضائية، وإلى عناوين الصدارة في الصفحات الأولى للصحف إلا عبر إشكال حدودي بين أهاليها ذوي التاريخ النضالي الساطع وبين جيرانهم الأبديين من السوريين، حتى لو افترضنا أن رجال الهجانة (أو حرس الحدود) السوريين قد أقاموا سواتر ترابية داخل أراضي هذه البلدة الباسلة والمضطهدة منذ قيام الدولة في لبنان.
حرام أن تصبح عرسال قضية خلافية مع سوريا بسبب مئات الأمتار من أرضها، وهي أم الشهداء بحق، يعبق الهواء فيها بنجيع فتيتها الشجعان الذين قدموا أرواحهم رخيصة في مختلف المعارك التي دارت تحت شعار حماية عروبة لبنان أولاً وأساساً، وقبل رفع مطالبهم وهم الفقراء والمحرومون في وطنهم ومن وطنهم.
إن حقوق عرسال وأهلها على لبنان، أجلّ وأقدس من أن تختصر في التنبّه المتأخر إلى أن الهجانة قد أقامت مواقع في أرضها بذريعة منع التهريب …
هذا مع الإشارة إلى أن التهريب نتيجة وليس سبباً!
هل تساءلت الدولة، بحكوماتها المتعاقبة، في أي يوم ومنذ الاستقلال وحتى الساعة: من أين يعيش أبناء القرى الحدودية عموماً سواء في البقاع، شماله وشرقه وغربه، أو في عكار، ناهيك بقرى ما كان يسمى خلال فترة الاحتلال الإسرائيلي ب الشريط المحتل ؟!
وليس معيباً أو مخجلاً لأبناء هذه المناطق أن يتهموا بالتهريب ، وبلداتهم وقراهم متروكة لريح الإهمال والتناسي المقصود، بلا خدمات حيوية، سواء تمثلت بالطرقات أو المدارس أو المستوصفات حتى لا نقول المستشفيات ، فضلاً عن فروع الجامعة الوطنية التي يمكن أن تغني أبناءهم وبناتهم عن الرحيل إلى بيروت، بكل ما يمثله هذا الرحيل من كلفة، أو إلى اختيار فروع نظرية، أو إلى السقوط في غش بعض جامعات الترف.
ليس معيباً أو مخجلاً أن يتهم هؤلاء المنسيون بجرم التهريب هم الذين أعطوا بلادهم أرواحهم فردت الحكومات المتعاقبة، مرة أخرى، منذ الاستقلال وحتى اليوم، بشطبهم من ذاكرة الوطن ومن اهتماماتها ومن برامج الإنماء والتطوير وسائر الكلمات الكبيرة التي تنزل عليهم كالصخر.
وللمناسبة فإن أهالي عرسال، بنسبة كبيرة منهم، يعيشون من صخورهم التي طالما بنوا بها القصور الفخمة والبيوت الأنيقة لغيرهم في الحواضر التي يصلونها بالأوتوسترادات، ويدخلونها كالغرباء، ويخرجون منها بما يربي الأولاد.
… وكيف لا يهرِّب ابن هذه المنطقة الحدودية، من النهر الكبير إلى ينطا ودير العشائر، البنزين أو المازوت، مثلاً، إذا كان الفارق في أسعارهما بين سوريا ولبنان يكفل له أن يوفر لقمة العيش (والتهريب هنا مؤذٍ للسوريين ومربح للبنانيين، باعتبار الدعم الحكومي هناك..).
إن أهالي عرسال، بسيرتهم النضالية المكتوبة بدماء شهدائهم وقد قدموها رخيصة من أجل الحلم بوطن، ومن أجل التمني أن يدخلوا دولته التي يسمعون بها ولا تصل إليهم ولا هم يصلون إلى نعيمها المسحور..
… إن أهالي عرسال أجلّ وأكرم من أن تختصر قضيتهم بمئات الأمتار التي تعداها الجار الأبدي وأهله الذين هم أهلهم أيضاً، بأي معيار…
وهذا لا يعني أبداً التسليم أو السكوت عن التجاوز..
لكن قضية عرسال أجلّ من أن يتم تسخيفها واستثمارها لأغراض سياسية عارضة، بينما الأرض باقية بأهلها على جانبي الحدود التي فصلت بين الأخوين.
فليكن الاهتمام بعرسال، الشهداء الأبرار والشهداء الأحياء من أهلها، ومن ماثلهم من أهالي المناطق الحدودية المنسيين إلا متى اكتشف البعض فائدتهم لتأجيج النار على ذلك الخط الوهمي الذي لم يستطع أبداً ولا يمكن أن يصير جداراً من دم بين الأخوين الشقيقين.