لا يحتاج الياس الهراوي إلى المزيد من الشهادات في شجاعته وفي إقدامه حيث لا يجرؤ الآخرون حتى لو كانوا من كبار المستفيدين من مبادراته الخارقة..
والاقتراح القنبلة الذي رمى به الياس الهراوي في ساحة الجدل السياسي، من شأنه أن يرفع مستوى الحوار حول القانون الانتخابي الجديد، بينما المجلس النيابي الحالي يكاد يتلاشى على أيدي أهله أو »فاعلياته« الذين تسببوا بتحويل المطاعن التي رافقت ولادته إلى مسوّغات لوأده من قبل أن يموت وإلى لعنات ستطارده بعد الوفاة!
لم تأخذ أحدù من كبار المسؤولين رحمة بهذا المجلس، وهو صاحب الفضل عليهم جميعù،
لقد تناوبوا على إيذائه والتشهير به وإفقاده مصداقيته حتى بدا وكأنه »لقيط« عثروا عليه عند باب الميتم،
نسي الجميع أن هذا المجلس كان مرشحù لأن يكون استثنائيù في تاريخ البلاد،
إذ انه ضم أكبر نسبة من صغار الكسبة وأبناء بسطاء الناس من ذوي المستوى الاجتماعي الطبيعي (أي خارج نادي العائلات المعتبرة عريقة)،
كما ضم أعلى نسبة من الحزبيين الذين كانوا يقولون بالتغيير في اتجاه نظام راديكالي أكثر عدالة وأعظم التزامù بقضايا الإنسان: الهوية القومية، الحريات العامة ولا سيما السياسية منها، ثم الحقوق البديهية للمواطن في »دولته«.
أليس هو المجلس الذي دخله لأول مرة، البعثيون والقوميون السوريون و»حزب ا”« و»حركة أمل« وبعض المتعاطفين مع أحزاب اليسار (الشيوعي)، إضافة إلى بعض الاتجاهات التقليدية أو المحافظة التي كانت تحتكر أو تتحكّم بالتمثيل الشعبي، سابقù، مستقوية بالسلاح الطائفي المدمر، أو بالحلف الجهنمي (كما كان يسمى) بين الإقطاع السياسي والطغمة المالية (وكلها تعابير من الماضي الذي جاء هذا المجلس، نظريù، على أنقاضه..)؟!
في المجلس السابق كان نجاح واكيم »ظاهرة« لم يقبلها أهل النظام إلا على مضض وكوثيقة ضد المطالبين بالتغيير، تكشف »تطرفهم« وولاءهم للخارج (؟!!) والنقص في »لبنانيتهم«؟!
أما في المجلس الحالي فكان يفترض، نظريù، أن يكون نجاح واكيم، أكثرية، ليس بسبب من عبقريته، بل لأن الذين توفرت لهم فرصة الدخول إلى نعيم البرلمان يشابهونه في انتمائه الطبقي، وفي كونه من خارج نادي العائلات الحاكمة، وفي أفكاره القائلة بالعدالة وفي إلحاحه على النزاهة وفي مطارداته الدون كيشوتية للفساد والمفسدين والفاسدين، وفي تبنّيه للمطالب الاجتماعية وهيئاتها التمثيلية المنتخبة (النقابات)، وإن كان يذهب إلى أبعد مما يطلبون أحيانù!
لكن الذي حدث كان بعيدù كل البعد عن المرتجى،
فها هي الأزمة الاجتماعية تحاصر المجلس بدل أن يكون مرجعها وملاذها وسلاحها في وجه القصور الحكومي سواء أكان ناجمù عن عمى ألوان أم عن جهل أم عن رعونة وضيق أفق وضيق صدر أم عن تشبّه بحكمة تلك الملكة الفرنسية الخالدة: لماذا لا يأكلون البسكوت؟!
وها هي أزمة الحريات الاعلامية، وهي العنوان للحريات العامة، تطوّق المجلس النيابي وتكاد تتهمه في شرف دوره: أليس البرلمان حاضنة الديموقراطية وحصنها ومنبرها وفارسها المبرز؟!
وها هو المجلس النيابي يجرد نفسه من أي دور سياسي ويتحول إلى »مكلمة« يقال فيها ما لا يُنفذ، ويحلَّل فيها ما يفترض أنه حرام قبل تدخله، فيشرع للاحتكار ويقنَّن الفساد وتكتسب الطائفيات والمذهبيات قدسية مزعومة تذهب بالدستور وتجعله نسيù منسيّù…
بل إن هذا المجلس استخدم فعلاً أو كاد يُستخدم لتفصيل أنماط من »الديموقراطيات« الهجينة، كما جرى استغلاله لسحب كثير من موبقات الحرب وإفرازاتها إلى الحياة العامة، بينما كان الأمل معقودù عليه في التأسيس لعصر السلم الأهلي و»دولته« التي ستبقى دائمù قيد التأسيس.
* * *
أهم ما في اقتراح الرئيس الياس الهراوي أنه يصحح مجرى النقاش، من حيث المبدأ، حول الانتخابات والدور الحيوي المفترض للمجلس النيابي العتيد.
فليس سرù أن نسبة ملحوظة من نواب المجلس الحالي قد أخذها الغرض إلى الترويج لفكرة التمديد للمجلس بذريعة »حراجة المرحلة«، في حين أن هذه الذريعة بالذات قد تفرض التعجيل بالانتخاب إضافة إلى توفير الضمانات الكاملة لقيام مجلس صحي وصحيح لا يطعن في تمثيليته طاعن إلا الموتور والمرتبط بالطرف المعادي للبنان الشعب والدولة في حاضره ومستقبله.
لم يعد تفصيل الدوائر والمقاعد على مقاس الأشخاص واردù، إذù،
ولم يعد ثمة مجال للاستثناء، مما يعيد الأمور إلى نصابها،
ولم يعد التميز أو التمييز أو الاستثناء ذريعة يمكن أن يستخدمها أصحاب الرهانات الدموية المدمرة (من متحدري الاجتياح الاسرائيلي للبنان وشبكة التحالفات التي أدت إلى معاهدات الصلح المنفرد) لادّعاء الغبن أو الظلم أو الحرمان أو الخوف من »الهيمنة« الجديدة.
اللهم، اذا ما توفرت الشروط الصحية الضرورية لأية ممارسة ديموقراطية في أي مكان من هذه الدنيا الفسيحة،
فحرام ان تظل تهمة القصور لاحقة بهذا الشعب العظيم الذي قدم دماءه سخية وما يزال يقدمها دفاعù عما يؤمن به، على المستوى القومي كما على المستوى الوطني، وان يظل يعامل وكأنه لما يبلغ سن الرشد، ويحتاج الى من يعلمه النظام أو الى من يرشده كيف يطرح الوريقات الحاملة اسماء المرشحين في صندوقة الاقتراع!
وفي انتظار ان يبلور الحكم اقتراح الرئيس الهراوي في مشروع قانون تمكن مناقشته تفصيلاً، والتثبت من الضمانات الموفرة لمجيء مجلس نيابي جديد مؤهل لحمل احلام اللبنانيين والمساهمة في تحقيق مطالبهم الملحة، لا بد من التنبيه أو التنبه الى بعض المسائل التفصيلية التي قد تشوّه المشهد كله، ومنها على سبيل المثال لا الحصر:
} ان الحكم عاشق عظيم للحرية، ولذا فهو يحتكرها لنفسه،
} وان الحاكمين عشاق أفذاذ للسلطة، ولذا فقد احتكروها لأنفسهم بعقد استثمار مفتوح يتيح لهم أن يكونوا مطلقين في ممارستها وفي الاستمرار فيها الى ما شاء الله.
} وان الحاكمين عشاق مدنفون بحب ذواتهم، ولذا فقد قرروا ان يحتكروا الإعلام المرئي والمسموع، على الأرض كما في الفضاء، اضافة الى المكتوب على الورق أو على اللافتات أو على الحيطان أو على علب الكرتون كما على رقائق الكومبيوتر وشبكات الأنترنت.
وأغلب الظن أن هؤلاء الحاكمين يفكرون الآن بوسيلة تمكّنهم من احتكار الديموقراطية ووضع اليد على الانتخابات، بيعù أو ايجارù أو بعقد استثمار مفتوح.
وتبقى ملاحظة أخيرة:
ان الخسارة في هذا المجال لبنانية وسورية، وكذلك المكاسب،
ألم يسلِّم العالم بمسؤولية سوريا عن لبنان، ونظامه أساسù؟!
والنظام الصالح في لبنان شهادة دولية للحكمة التي طالما تميزت بها القيادة السورية، وهي قد استطاعت في جملة إنجازاتها الكبرى ان تحتوي هذا النظام وأن تدجنه بحيث بات يمكن توظيفه لخدمة المصالح القومية العليا.