يأتيني منك الصباح وأمشي في ظل شمسك بامتداد نهاري وأثوب اليك مع الليل ليكتمل بك العمر.
تمدين قبل يدي يدك فتُلبسينني قميصك، وتلفحينني برشة العطر وأنا عند الباب فيعرفني الجميع برائحتك، وينظرونني بكبر: هو من تحب، لكم جعلته شهياً.
أغافلك لكي اتحقق من انك فيّ، لا تغفلين عن شيء ولا تغيب عنك نأمة.. وأكاد اسمع ضحكتك الخافتة العابثة وأنا أرتبك في لقاء بعض من عرفت قبلك، فأخاف أن احتضن الذكرى الجميلة وأخجل من نكرانها بينما هي تخرج من مكمنها لتؤكد ذاتها وذاتي.
تبتسمين بخبث وأنت تفردين جناح تسامحك على اللحظة المسروقة لكي تحددي لها نهايتها، وأرخي ذراعي العناق مصعوقاً بحقيقة انك قد ملأتِ الماضي أيضاً.
أنفخ صدري لأستعيد توازني مع الآخرين، فإذا الملامح تتداخل وتتشابك وتتحول وتذوب في كوكب وجهك الذي غدا مداري: منه البداية واليه المنتهى وما عداه مرئيات تعبر فلكك لتزينه وتسليني في توحدي بك.
لكم أنت عديدة ومنتشرة،
فوق الارصفة، على أوراق الشجر، في زرقة البحر، في زقزقة الدوري المبلول بالمطر وهو يقاوم البرد بوعد الشمس العائدة الى ريشه غداً، في خرير الماء، في ألحان الغروب ذات الشجن، في التماعة الضوءين المتقاطعين عند صورتك، فوق الكنبة، على طرف الكرسي، في الطرقة، وعبر هدير الطائرة الراجعة بالحنين، في الاهداب المسبلة على طيف حلم سني، في العنق المتعب بحمل رأس تضج فيها الأفكار بحثاً عن يقين ثابت ومطلق مثلك.
انت هنا، انت هناك، انت في كل احد وكل شيء: تملأين الأزمنة وتمتلئ بك الامكنة، ويتسع عالمي فأخاف من الضياع لولا انك منارتي ومرفإي ومصدر الأمان.
أمنّي النفس بأني متى غبت استعدت حريتي فانطلقت متخففاً من وطأتك لأدخل خدور من اشتهيت من النساء، وأغشى الاندية التي منعتني عنها لأنك تتعبدين للنور وترفضين صداقة الخلسة.
لكنك تنثرين عيونك في وجوه النساء جميعاً، فما أن التقي احداهن حتى اجدني قد عدت الى فيئك.
ألا سبيل الى حبك الا الطوفان؟!
وأنت تشغلين الفضاء كله، الأرض كلها، الناس جميعاً، فأين المفر؟!
والفرار منك وإليك الفرار،
ألست الفلك والمدار؟!
وها انا اسبح فلا أبلغ منك إلا السفح، والتفت الى عينيك فتغمزان ان ارتفع.
وارتفع طوفاناً في قلب الطوفان.
ثم أمد يدي الى السماء أغلقها لكي يدهم النوم عيونك فتسحبينني من اللجة لتصنعيني حلماً فيه نفحة من جمالك الصبح.
وأرتدي غدي غداً لأكون الشهي الذي ينظرك الناس فيه فيتشهون ان يجيء طوفانهم عبر طرفة عينيك الناعستين.
وفي عينيك يسكن الصباح.
وفي عينيك يرتاح الليل.
وعنواني في تلك الضفة الغراء بين صبح الليلين.
الياس لحود وحلمه الأحمر
في علبة هدية وصلني الوجه الثاني، ربما الأصلي، لشعر الياس لحود.
قرأت مأخوذاً بفكرة انني اتابع »تدريبات« الشاعر في الملعب الخلفي، وقبل ان ينزل الى ساحة المبارزة مع ورثة الخليل بن احمد.
وأعترف بأنني استمتعت بثلاثية الياس لحود التي أصدرها »شعراً بالمحكية« عن دار كتابات، حاملة اسم »البكر« فيها، كما يبدو، »جسمك عرس« ومعه »براويز قصص« و»عقد فرسان«.
اعترف ايضاً بأنني تمنيت لو ان الياس لحود قد خفف من جنوحه الى الراحة فأطلق هذه الباقة من قصائده الجميلة بلغته المتينة والرقيقة معاً والتي تحمله فتوصله منذ أكثر من ثلاثين سنة الى جمهوره العربي.
»الشعر بالمحكية« نزهة بين قصيدتين.
او لعلها الرغبة في تأكيد التفوق محلياً كما في المحيط العربي.
لعله التحدي للصعوبة التي تبدأ مع محاولة سبك الصورة الشعرية في قالب ضيق، قد يستحيل إخراجها منه الا اذا غناها صوت قدير كفيروز او وديع الصافي ومن ضمن هالة امبراطورية كقلعة بعلبك او انجاز فني كأعمال الرحابنة وفي زمن رضي كالذي عشناه قبل الحرب الاهلية.
الشعر هو الشعر، بأية لغة كُتب.
ولكن من تراه يستطيع »الترجمة« من »المحكية« الى »المفهومة« إلا الموسيقى؟!
الياس لحود يعزف في »محكياته« على أوتار قلبه.
ويبدو انه، بوعي، قرر ان تكون حفلته هذه لجمهور حميم فخاطبه بحيث لا يفهم غيره الرسائل الملتهبة عن »الحلم الاحمر على حبة رمل حمرا..«.
خارج الآخرين، داخل الآخرين
اقتحمت عليه غرفته، تتقدمها موجة عطر، وتلهث للحاق بها اعطاف فروها الطويل. قالت: كنت عابرة، فتذكرتك، وهزني الشوق فرقيت إليك بلا موعد.. آسفة، لم اكن اعرف ان لديك ضيوفاً. هي دقيقة فقط أسلم وأمضي.
كان تحت تأثير المباغتة بعد، بينما ضيوفه يهبون واقفين مأخوذين بأناقتها المعطرة وجمالها الهادئ، برغم ما أفسدته الألوان المضافة منه. قال بارتباك من يبحث عن مخرج لتحرّجه: يُظهر الفرو ما كنت تجتهدين في إخفائه من شخصيتك المقتحمة. انت اليوم في صورتك الأصلية، مفترسة ناعمة الملمس.
قال احد ضيوفه وهو يحتضنها كصديق قديم: يخطئ من يحكم عليك من خارجك.
استفزه هذا الادعاء، فاحتقن وجهه، وسرت في عينيه موجة غضب، وجاهد لضبط لسانه، ثم أراحته بأن خاطبته مباشرة متجاهلة من نافقها: انت اكثر من يعرفني، ومعك لم اكن أبداً الا أنا. لقد علمتني ان الانسان قد يستطيع تغيير جلده، وربما اسمه، وملامح وجهه، لكن روحه تبقى واحدة.
استعاد رضاه عن نفسه وعنها، فتشاغل بمكالمة هاتفية طارئة، مفسحاً لها في المجال كي تؤكد سيطرتها على الجو مستنفرة إزاءه حسد الموجودين ونفاقهم.
اكملت بلهجة الاعتذار ذاتها: وأما الفرو فلأن ثوبي قصير جداً، فأنا مدعوة الى سهرة راقصة، ولقد أخجلني جو المكتب الرصين فمنعني من خلع المعطف. ان اتهم بقلة اللياقة اسهل من الاتهامات الاخرى المحتملة التي قد تصيب غيري.
تبدل الجو »الرجالي« في تلك الغرفة المزدحمة الآن بالأحقاد والتمنيات والإثارة، وقال الأرصَن من بين الموجودين: لقد اسعدتنا مصادفة اللقاء والتعارف، واعتذارك يكشف ان داخلك أغلى وأكثر أناقة من مظهرك.
استعاد هدوءه وزمام المبادرة فسألها عن آخر مشروعاتها الناجحة، قالت بثقة: لقد فهمت السوق، بعد شيء من التعثر، ولي مكانتي الشرعية الآن فيه.
رن هاتفها الخليوي، فأخرجته من حقيبتها الصغيرة المرصعة بحبات اللؤلؤ، واستأذنت، فقالت فيه جملاً قصيرة بينما كل يحاول »ترجمة« ما يسمع وفق هواه او حنقه، فلما أنهت المكالمة قالت برصانة: يطاردنا العمل حتى في لحظات الدعة. آسفة لمقاطعتكم، وسأترككم الآن تكملون ما كنتم فيه قبل إغارتي عليكم.
نهضت فنهضوا آلياً، وفي عيونهم أسف لانتهاء الغارة بهذه السرعة.
مشى معها مودعاً، فقالت: أفسدت عليك اجتماعك.
قال بسرعة: الفساد بقي في الداخل، والمتعة كانت سريعة كالخاطرة. لو انهم يذهبون وتبقين.
قالت متحدية: وهل تستطيع ان تصرفهم؟! أعرفك جباناً، تحت ستار التهذيب.
استطيع ان ادعوك لتكون ضيف الشرف في سهرتنا، فهل تأتي؟! طبعاً لا.
قال: لا أحسب انك جئت فقط لهذا.
قالت: جئت لأنني رغبت في ان اجيء لأراك. لا أملك منك الا هذا.
قال: ثم تذهبين الى الآخرين.
قالت: وتعود الى »آخريك«.
قال بنبرة حزن: يأخذنا الآخرون فلا يتبقى لنا من انفسنا شيء.
قالت: لو انك جعلت الآخرين خارجك لما أخذوك كلك.
قال مغضباً: وأنت؟! ألم تدخلي الآخرين إليك كلك؟!
قالت مهدئة: الآخرون بدلاء للتسلية وإشغال الوقت الضائع. اما اذا دقت الساعة فما أسرع ما يمكن إرسالهم الى الجحيم.
قال: تعرفين عنواني، إذاً، أنا الجحيم.
قالت وهي تغلق باب المصعد: ليتك كنت كذلك. انت نقطة ضائعة في فضاء بلا حدود. ألا تنوي ان تجعل لنفسك باباً تقفله على من يأتيك لذاتك بدل ان يفيد منك الآخرون معبراً الى الآخرين؟! أما بابي فتعرفه.. اطرقه قبل ان تنساه.
حوار السابقَيْن
قالت الزوجة الثانية: كل هذا العطاء ولم تنسها بعد؟!
قال الزوج الثاني: أَبعَدُ كل تضحياتي من أجلك تتذمرين؟
قالت الزوجة الثانية: أريد ان أشغل كل حواسك، اريد ان احتل كل مساحة فيك، فأجدها تطل بين الحين والآخر من ذاكرتك لتناكفني.
قال الزوج الثاني: بل انت من يستحضرها. لعلك احياناً تشعرين بالذنب، او ربما تلومين نفسك على تقصير او قصور. يجب ان توقفي هذه المباراة اللعينة معها.
قالت الزوجة الثانية: وأنت؟! أمصر على المضي في المقارنات الى النهاية.. لو جاريتك في هذا وأقمت مقارنة مفتوحة بينك وبينه لدمرت حياتنا.
قال الزوج الثاني: توقفي عن هذا الهذر. انت تدفعيننا الى حافة منزلق خطر.
قالت الزوجة الثانية: هل أثرت غيرتك؟!
قال الزوج الثاني: لم يتبق للغيرة اثر وقد بتِّ في سريري.
قالت الزوجة الثانية: سريرك ام حياتك؟
قال الزوج الثاني: لم أقصد تقزيم الحياة الى سرير.. لعلني اوجزت فاختل المعنى.
قالت الزوجة الثانية: تعرف انني لست فقط امرأة سرير.
قال الزوج الثاني: ولا انا رجل سرير فقط، ومشكلة امتلاء السر يمكن حلها بأبسط من هذا. اعتذر، حبيبتي، ان كنت اسأت.
قالت الزوجة الثانية: بل لعلني اندفعت الى أبعد مما يجوز.. اغفر لي.
قال الزوج الثاني: لماذا نعيد انفسنا دائماً الى حيث تحاصرنا أشباح الماضي.. هيا فلنخرج فلنلهُ ونسمع صوتاً منعشاً يغني حبنا.
قالت الزوجة الثانية: أهكذا كنت تصالحها بعد أي شجار؟!
قال الزوج الثاني: بل هكذا تفتعلين أنت الشجار من دون سبب، إلا لأنك تشعرين بأنك لم تملأي كل مساحتها بعد. نسيتها انا ولم تنسيها أنت. استحضرك فتستحضرينها، ولا أطيق ان أعيش معكما معاً.
قالت الزوجة الثانية: أليس هذا أفضل من ان أستحضره هو؟!
قال الزوج الثاني: بل أنا من سأطلبه ليحضر فعلاً. اليّ بالهاتف…
قالت الزوجة الثانية: قم بنا الى السرير، لنغيب في أفياء حبنا، فيغيب عنا الجميع.
من أقوال »نسمة«
قال لي »نسمة« الذي لم تعرف له مهنة إلا الحب:
عندما سمعت كلمة »حبيبي« منها أخذتني النشوة إلى دنيا مسحورة كل من فيها وكل ما فيها بهي الجمال. لم يعد لأحد شكله الأول، وانقسمت الدنيا نصفين: نصفها المتصل بنا والموفر إطاراً لحبنا مشرق ولطيف، ونصفها الآخر لا نراه.
سرحت بعيداً، فنهرني »نسمة« وهو يضيف:
اليوم ادفع راضياً ضريبة حبي، فيش النصف الثاني من الدنيا الذي أجدني الآن محاصراً فيه. مع ذلك فلست نادماً فلقد ساعدني حبي على تحمّل الصعب في هذه الدنيا.