حمي الوطيس في لبنان، واشتعلت »المحاور« دفعة واحدة وبكل الأسلحة، فالانتخابات على الأبواب، ولا مجال لأنصاف الحلول بل هي الحرب على طريقة »يا قاتل يا مقتول«!
وها قد عدنا، مرة أخرى، إلى مقاعد الدراسة نتعلم كيف تبنى الديموقراطية بالطائفية، وكيف يتم تحرير المواطن باستغلال السلطة، وكيف يصبح المال الحرام (مع أنه »أبيض«!!) وسيلة للبروز الاجتماعي عن طريق استخدامه في التعازي والتهاني ونفاق أولي الأمر والاستقواء به على »أصوات« المستضعفين في الأرض..
… ونتعلم أيضا كيف يمكن تجاوز الخصومات »العقائدية« بالتحالفات السياسية، لأن المصلحة تتقدم على العقيدة والموقف السياسي معا،
… ونتعلم أخيرا وليس آخرا كيف يمكن اغتيال إنجاز تاريخي باهر مثل »التحرير بالمقاومة« عن طريق استخدامه مادة للمزايدة، تارة بادعاء ملكيته، وطورا بادعاء السبق في الدعوة إليه، ودائما باستخدامه سلاحا ضد »المنافس« وكأن الوطن بأرضه وناسه مجرد »ورقة« انتخابية تستخدم مرة واحدة ثم ترمى كالمناديل المن ورق!
ولأن الوطيس الانتخابي قد حَميَ في لبنان فلقد كدنا ننسى تلك المفاوضات المفتوحة، كالجرح، بين »سلطة« عرفات الفلسطينية وحكومة باراك الإسرائيلية تحت رعاية الولايات المتحدة الأميركية في مصيف كمب ديفيد.
… وها قد عاد الرئيس الأميركي المضيف، بيل كلينتون، من مؤتمر أغنى أغنياء العالم، المتحكّمين في مستقبل الإنسان، ليتابع مع وزيرته الخطيرة وأعضاء مجلس الأمن القومي ورجال الصف الأول في الخارجية والدفاع والمخابرات المركزية »الدورة الاستثنائية المكثفة« في تاريخ البشر والأمكنة والمقدسات والصراع ملخصا في الأرض المقدسة، وهي الدورة التي بيّنت حتى اللحظة أن القوة وحدها لا تلغي حقوق الشعوب في أوطانها، وأن ليس كل البشر من الهنود الحمر، الذين يسهل استئصالهم كأقلية ضعيفة ومعزولة، وأن ثمة قضايا لا تميتها الهزيمة العسكرية ولا تسقطها ركاكة دعاتها أو افتقاد النصير النافذ.
والمفاوضات، في كمب ديفيد، هي أيضا بازار انتخابي مفتوح، أقله لطرفين فيها: الإسرائيلي والراعي الأميركي، وما قد »يتنازل« عنه أولهما قد يتسبب في إخراج الثاني من البيت الأبيض، بينما »التشدد« قد يفيد »الشريكين«، وإن تعذر الاتفاق الذي سيدخل كلينتون التاريخ،
مجنون وحده مَن يفضل التاريخ على البيت الأبيض،
ومجنون وحده مَن يفترض أن إيهود باراك الذي خسر نصف حكومته لأنه قبل بالذهاب إلى كمب ديفيد، سيرضى بأن يخسر نصفها الآخر بالموافقة على الحد الأدنى من الأدنى الذي يطلبه الفلسطيني،
وباراك، مثل كلينتون، يفضل مقعد الرئاسة على موقع في التاريخ مع جزء من جائزة نوبل… ثم انه ما زال »فتى«، يمكنه أن ينتظر موعدا آخر مع »التقدير المعنوي«، أما اليوم فيريد السلطة، والمزيد من السلطة ويفضل أن يتأخر موعد لقائه مع »بطله« إسحق رابين.
وهكذا تتواصل المفاوضات، التي يعقِّدها الغرض الانتخابي أكثر مما يسهِّلها، بين حدي الموت الجماعي بالانتفاضة اعتراضاً، أو بالاغتيال رفضا، أو بكليهما معا: لا النجاح بالاتفاق ممكن، ولا السقوط بالفشل مسموح به، ولا التمويه بفشل ناجح يبدو ممكنا.
* * *
اللبناني أشطر: فها هو يسخّر كل شيء لغرضه الانتخابي!
الوزراء ينتقدون الحكومة ويسفِّهون تدابيرها، لا سيما في المجال الاقتصادي..
وبعض الرؤساء يطالبون، وكأنهم على رأس المعارضة، بتحقيق مطالب قديمة، تتصل بالحياة اليومية للناس، كالمستشفيات والمياه والكهرباء والطرقات،
وبعض النواب من دعاة العلمانية يواجهون احتمال استبعادهم من اللوائح الذهبية بشهر سلاح أقصى التطرف الطائفي، ويدعون »خصومهم« إلى النزال: طائفة لطائفة، والعلماني أظلم!
أما الذين كانت طائفيتهم مموهة فقد أسقطوا التمويه، وانطلقوا يتبارون، وكأنهم في مزاد علني، في رفع درجة الحمى الطائفية، واثقين من أن بعض الفتنة يفيد طرفيها، ولا بأس أن أُضير الوطن قليلاً، فالزعامات تعوِّض الأوطان والشعوب أيضا!
* * *
في أربعين الراحل الكبير حافظ الأسد في القرداحة، كان الحشد يضم وفودا ووجوها عربية ذات أدوار وقيمة تاريخية..
كان لفلسطين وفود عدة: بعضها من داخل الداخل، أي من فلسطين 1948، الذين يحملون بالإكراه أو بقوة الأمر الواقع الجنسية الإسرائيلية، وبعضها من »الداخل«، أي »داخل مناطق السلطة« التي مساحتها قيد التفاوض حتى اليوم، وبعضها من »القدس« التي يمنع عليها الإسرائيليون أن تكون من الداخل الفلسطيني في حين أن لا فلسطين من دون القدس، وبعضها الآخر من ديار الشتات أو اللجوء الفلسطيني، والذين يمنع عليهم العودة إلى »الداخل«.
وفي لقاءات سريعة جدا مع العديد من هذه الوفود كان الموقف على اختلاف المواقع واحدا: التسوية مستحيلة من دون القدس العربية (الشرقية) عاصمة فلسطين. أي اتفاق يستثني القدس سيقتل من يوقعه ولن يحسم الصراع بل سيؤججه،
بعض فلسطينيي 1948 كان أشجع في تلخيص الوضع: النموذج اللبناني يدل إلى الطريق الصحيح، أما كمب ديفيد فيأخذنا إلى المثل الغلط!
حسم النقاش أستاذ اللغة العربية للراحل حافظ الأسد حين قال في خطابه الحميم: »والله لقد بكيتك كما بكيت من قبلك جمال عبد الناصر، وحده من بين الملوك والرؤساء العرب«… فإذا جميع »الوفود« تلتقي في إطار هذه التحية المزدوجة لمقاتلين من أجل فلسطين وباسمها.
للمناسبة، اليوم وبينما تقترب مفاوضات كمب ديفيد من نهايتها، تجيء الذكرى الثامنة والأربعون لثورة جمال عبد الناصر في مصر، والتي فجرتها فلسطين والعجز عن مواجهة المشروع الصهيوني،
وهذا عنصر إضافي سيزيد من دور التاريخ في تحديد المصائر في هذه المنطقة!
وستظل الانتخابات، أي انتخابات، أقل أثرا من دور التاريخ، لا سيما في الصراع العربي الإسرائيلي.
* * *
على هامش حفل التأبين، وفي حوار سريع، قال أحد المواكبين المصريين لمسيرة التفاوض بين الفلسطينيين والإسرائيليين:
التوقيت غلط، ولعل القاهرة قد ألمحت إلى ذلك، لكن الأطراف جميعا تجاوزت هذا التحفظ. اعتبر كلينتون أن الطرفين المعنيين بحاجة إلى اتفاق ما، واعتبر باراك أن عرفات لا يستطيع أن يقول »لا« لكلينتون، مفترضا أنه قد سلمه جميع أوراقه، كذلك اعتبر عرفات أن باراك بحاجة إلى اتفاق من أجل انتخاباته المقبلة، وأن كلينتون يستطيع أن ينتزع له مثل هذا الاتفاق. باختصار، الثلاثة أضعف من أن ينجزوا اتفاقا على مثل هذا القدر من الخطورة. ربما لهذا فضلت القاهرة أن تبتعد، مع أنها لا تستطيع أن تتخلى عن عرفات، ولذلك فنحن بصدد إقامة شبكة أمان خلفية تحميه من نتائج التفاوض المحكوم بعدم النجاح.
واستدرك الخبير المصري الظريف:
في أي حال فنتائج المفاوضات في كمب ديفيد لن تؤثر على انتخابات مجلس الشعب الجديد في مصر.
* * *
في لبنان نحاول بناء الديموقراطية بالطائفية!
وفي إسرائيل يحتاجون »القدس موحدة« لكي ينجح باراك في انتخاباته،
وفي واشنطن يطلب كلينتون توقيع عرفات على المطالب الإسرائيلية معدلة أو مخففة لكي يضمن النجاح لنائبه آل غور في انتخابات الرئاسة،
وفي الفاتيكان يريدون »حصة« من القدس، طالما أن المفاوضات انحدرت إلى حقوق الطوائف في المدينة المقدسة،
والنموذج اللبناني، التحرير بالمقاومة، مهدد بأن يغطس في مستنقع الانتخابات ومناخها الطائفي، في انتظار أن تطل المذهبية بريحها فإذا الفوز مضمون للأبعد عن الديموقراطية والأبعد عن الوطن.
مع ذلك ستبقى صورة »المجاهد اللبناني« بسلاحه عند الحد مع الاحتلال تحتل مركز الصدارة في قاعة التفاوض في كمب ديفيد، ولن تطمسها صور المنادمات والمسامرات واللقاءات »العائلية« المحررة من كل قواعد البروتوكول بين الذين لا يستطيعون التحايل على أسباب العداء ولا تجاهلها ولا تجاوزها بالمعايير المعتمدة في ربع الساعة الأخير من ولاية الرئيس الذي قدم في جنيف الدليل القاطع على أنه لا يستطيع أن يكون محايدا بين الإسرائيلي وأي عربي.. بمن في ذلك الفلسطيني!