طلال سلمان

انتخابات كنقطة تحول

تعوَّد اللبنانيون من انتخاباتهم النيابية أن تتحول إلى ما يشبه »السيرك« وحفلات التهريج والدجل والزجل السياسي.
كذلك فهم تعوّدوا أن يحتدم الصراع بين الحكومة المشرفة على الانتخابات، والغاطسة في أوحالها »الديموقراطية« حتى رأسها، وبين »المعارضات« التي سبق لها أن مارست مثل هذا الدور، وواجهت من الاتهامات والطعن في الحيدة والنزاهة مثل ما تواجه هذه القائمة بالأمر اليوم، وإن كانت النبرة الآن أعلى والحدة أعنف والادعاءات أكثر خطورة.
وإذا أمكن كشح الغبار الذي أثارته وتثيره عواصف التشهير والترويج والطعن في الأمانة والذمة المالية وفضح استغلال النفوذ أو الاستخدام الغزير »للمال السياسي«، فإن ثمة ظواهر تتبدى في سياق هذه الانتخابات تستوقف أو هي لا بد من أن تستوقف أي مهتم بدلالاتها البعيدة، وأهمها:
إن الطرفين الأبرز والأعظم حضورا في انتخابات 2000 هما رئاسة الجمهورية ورئيس الحكومة السابق رفيق الحريري.
ومع أن الرئيس إميل لحود لا يتعب من التكرار أنه على مسافة واحدة من جميع المرشحين، إلا أن »الساحة« تشهد تزايدا ملحوظا في عدد من يدعون علنا وعلى رؤوس الأشهاد أنهم إنما »يخوضون المعركة لدعم الرئاسة الأولى«، أو أنهم »ما خرجوا من ترددهم أو استنكافهم إلا لكي يدعموا نهج المثل والمثال«، أو أنهم »دخلوا الحرب حماية لمشروع بناء دولة القانون والمؤسسات« الخ.
بل ان العديد من المرشحين، في جبل لبنان أساسا كما في العديد من المناطق، لا يترددون من التصريح جهرا بأنهم إنما يمثلون خط التغيير الذي نادى وينادي به الرئيس لحود… وثمة من يتباهى بأنه ما كان ليدخل هذه اللائحة أو تلك، أو أنه ما كان ليشكل لائحة، أصلاً، لولا تمني »القصر« وبلوغه ما يفيد بأن تلك رغبة »المراجع العليا«.
أكثر من هذا: ثمة من يقول علنا إن رئاسة الجمهورية كانت محاصرة ومغلولة اليد، وإن هذه الانتخابات ستكون الفرصة الممتازة »لتحررها« واستعادتها الوهج الذي كان لها في الماضي… وإنه إنما سيأتي نائبا بفضل هذا الوهج المقدس!
وإذا كان حضور الرئيس إميل لحود بديهيا في المتن الشمالي، فسيظل صعبا عليه مهما حاول أن يخفف منه أو أن يقفز من فوق واقع أن نجله إميل مرشح على قائمة نسيبه وزير الداخلية ميشال المر.
يمكن أن يقدر الناس الظرف العاطفي للرئيس، لكنهم سيتابعون حركة وزير الداخلية بمزيد من الارتياب في استغلاله هذا الظرف، وفي تسببه بشيء من الحرج للرئيس الذي يتمنى الناس ألا يصيبه رذاذ من معارك وزير »الديموقراطية المرة«.
أما حين يسمع الناس من يدعي أنه »مرشح القصر« أو »مرشح العهد« أو »مرشح خطاب القسم« في كسروان جبيل، أو في بعبدا عاليه، أو في الشوف، أو حتى في بعض الشمال أو بعض البقاع،
وحين يبرر رؤساء بعض اللوائح »اختيارهم« مرشحين معينين، أو قبولهم مرشحين أُسقطوا عليهم بالمظلات، »برغبة المراجع العليا« أو »تلبية لطلب مباشر من جماعة القصر«،
حينذاك سيلتفت الناس الى الانتخابات من جديد، ويقرأون النتائج المحتملة قراءة مختلفة تعيدهم إلى ما قبل اتفاق الطائف وموقع الرئاسة الأولى ودور مجلس الوزراء كمؤسسة هي مصدر القرار.
بالمقابل فقد أثبت رفيق الحريري أنه حاضر سياسيا، وبقوة، في معظم مناطق لبنان: من أقصى الشمال إلى البقاع مرورا بجبل لبنان فضلا عن بيروت التي وحده يخوض المعركة في دوائرها الثلاث مجتمعة.
وليست زيارات التأييد والدعم التي قام ويقوم بها للوائح تضم بعض أصدقائه أو مناصريه أو القريبين من »تيار المستقبل«، في المناطق خارج بيروت، إلا إظهارا لحقيقة أن خروجه (أو إخراجه) من الحكومة قد أكسبه قوة شعبية لم تكن له وهو في الحكم، حتى وإن شابت هذه القوة شائبة عصبوية معينة، واتخذت طابع رد الاعتبار إلى من كلفه حرصه على موقع رئاسة الحكومة وصلاحياتها أن يتركها ولو إلى حين.
بهذا المعنى، فإن ثنائية الرئيس لحود رفيق الحريري تتجاوز الإطار الانتخابي لتصب في ثنائية سياسية سيكون لها شأنها في المجلس النيابي المقبل وفي الحكومة أو الحكومات التي ستنبثق عنه.
وإذا ما أخذنا بالاعتبار التراجع الذي أصاب »حركة الصعود الشيعي« التي كانت بين أبرز ما انتهت إليه سياسيا مرحلة، بل مراحل الحرب الأهلية، أو أقله جمود هذه الحركة عند نقطة لا تستطيع تجاوزها إلا بإسقاط النظام الذي باتت تشكل جزءا أساسيا من عموده الفقري،
وإذا ما انتبهنا إلى انتهاء مرحلة الثنائية الشيعية الدرزية، التي كانت بين معالم الطور الأخير من الحرب الأهلية، والتي دمغت بدايات عهد ما بعد الطائف بشيء من تأثيرها،
… فمن الضروري أن نتنبه بالمقابل إلى نشوء أو عودة ثنائيتين طالما تبدتا متكاملتين أو أقله غير متناقضتين، هما: الثنائية السنية الدرزية، والثنائية المارونية الدرزية التي يرتفع بها صوت وليد جنبلاط هذه الأيام مسقطا في مناداته بها ما كان يُعتبر في خانة »المحرمات« أو ما يدانيها.
ومن الضروري أن نلحظ أن وليد جنبلاط الذي يشكل الجامع المشترك بين الثنائيتين، هو الحليف الأقوى سياسيا لرفيق الحريري، وهو يندفع إلى أبعد مما يذهب إليه رئيس الحكومة السابق، بحذره الغريزي، في المعارضة العلنية لرئيس الجمهورية ولما تُتهم به دوائر القصر من دور في الانتخابات النيابية، ترشيحات ولوائح ولوائح مضادة.
هل نحن على أبواب مرحلة جديدة تأتي الانتخابات لتعطيها الوجهة الفعلية وتحدد لها أهدافها التي ما زالت حتى اليوم مضمرة؟!
إن عواصف الغبار وسيول الاتهامات المتبادلة لا يمكن أن تحجب الدلالات الفعلية لوقائع تعلن عن نفسها يوميا، على الأرض:
} أولى الدلالات أن »الصوت الذهبي« في هذه الانتخابات هو »الصوت الماروني« العائد بعد غياب، بكامل جهوزيته التي تمتد من الكتلوية إلى الكتائبية إلى »الوعد« والى بعض »الشمعونية« وإلى بعض »القوات اللبنانية« وبعض »العونيين« وبعض قدامى »المردة«..
} ثانية الدلالات أن عصر الحلم بالتغيير الذي تبدى للحظة وكأن »الصوت الشيعي« يشكل رافعته وسلاح الاقتحام فيه، قد طوى أعلامه منسحبا، بعدما انضوت حركة »أمل« كليا في النظام الجديد القديم، أو النظام القديم مجددا، وبعدما تراجعت موجة الوعد بالتجديد التي أكسبتها مقاومة »حزب الله« زخما عظيما ذهب معظمه في تحقيق النصر على الاحتلال، في حين يكاد النظام يستوعب ما تبقى من ذلك الزخم… ديموقراطيا.
} أما ثالثة الدلالات فهي أن الانتخابات النيابية تجيء بتوقيتها كما بشعاراتها وأسلحتها وعدة الشغل التي لازمتها (بما فيها المحادل والبواسط ومعامل التعليب)، وكأنها المحطة الفاصلة بين عصرين وليس فقط بين عهدين: عصر اتفاق الطائف بكل التباساته وعصر ما بعد الطائف بكل آفاقه المجهولة حتى الساعة.
إنها أكثر من انتخابات. انها نقطة تحول.

Exit mobile version