كلما انفتح البازار الانتخابي الأميركي زاد تعثر السياسات العربية، المتعثرة أصلاً، واشتدت حيرة الحكّام وسفرائهم وارتبكوا وتاهوا: هل يستمرون في نفاق الرئيس المرشح، أم ينصرفون عنه إلى مدّ الجسور وتعزيز الروابط (بالرشى) مع المرشح الذي قد يصير رئيسù… وهكذا ينعدم التأثير »العربي«، الضعيف أصلاً، كلية.
والمفارقة فاضحة: أن تتحوّل عشرون »دولة« عربية إلى شهود زور وإلى مجرد متفرجين بُلهاء على لعبة لا يعرفون بعد قوانينها ومفاتيح التحكّم فيها، وألا تكون القدرة على أداء دور صوت انتخابي واحد في الولايات المتحدة الأميركية.
أما في البازار الانتخابي الاسرائيلي، فكثيرù ما استخدم »الصوت العربي« في عمليات الابتزاز السياسي للولايات المتحدة، كما في إحراج الخصم الحزبي المنافس في الداخل، وإجمالاً في تغذية التطرف الاسرائيلي.
الآن، ومع تهاطل التواقيع العربية على اتفاقات »السلام الإسرائيلي«،
… ومع تطوع أطراف عربية مؤثرة لتأدية دور المسوّق والمروّج والسمسار بالعمولة أو بالرضى، مع الطموح إلى دور الشريك مستقبلاً، بات إسحق رابين خائفù على صورته مقارنة بمنافسه الليكودي، إذ ربما صدَّق الناخب الإسرائيلي المتطرف بطبيعته أن »محطم العظام« قد أخذته حمى »السلام« إلى الاعتدال، فتكون النتيجة خسارة الانتخابات الاستفتاء والزعامة التاريخية للمشروع الأسطوري: إسرائيل الكبرى بوصفها »الشرق الأوسط وشمال أفريقيا«، أي ما كان يسمى سابقù »الوطن العربي الممتد في ما بين المحيط والخليج«،
لقد صارت الانتخابات الأميركية، بأفضال »السلاميين« العرب، موقعù متقدمù للنفوذ الإسرائيلي.
وإذا كان من المسلّم به أن الإدارة الأميركية القائمة هي الأكثر ضعفù أمام إسرائيل، والأكثر »يهودية« في تاريخ تلك الدولة العظمى، فمن البديهي أن تكون إسرائيل قد غدت »ناخبù كبيرù« أو صوتù مرجحù، إن لم تكن »الناخب الأكبر« في انتخابات العام المقبل الرئاسية،
ولعل في الكلام الرخيص الذي قاله الرئيس الأميركي كلينتون أمس، لبعض اليهود الأميركيين، والمنشور إلى جانب هذا الكلام، شهادة إضافية على الاستسلام المطلق لهذه الإدارة أمام »الصوت« الإسرائيلي.
* * *
الانتخابات أهم من »السلام«، في الولايات المتحدة كما في إسرائيل،
و»السلام« مهم كمادة انتخابية لبيل كلينتون كما لإسحق رابين،
أما إذا تعارض »السلام« مع المصلحة الانتخابية فإلى جهنم السلام وبئس المصير!
و»السلام« مع سوريا مكلف، يأتي نتيجة لمفاوضات مضنية تأخذ بالاعتبار التاريخ والجغرافيا، المبادئ والمصالح، القدس قبل الجولان والجنوب اللبناني معه لا بعده، الدور ومداه الحيوي، هوية المنطقة ووجهة سيرها نحو مستقبلها، وأي مستقبل، ومَن يقرّره وكيف،
الانتخابات أهم من »السلام«،
أما الكذب فهو مبرّر، لأنه أقل تكلفة للدولة العظمى من الحرج الذي قد يمس هيبتها،
ولقد حدّد الإسرائيليون أنفسهم مصدر الكذب، حين أكدوا ما لا يحتاج إلى تأكيد، وهو أن رئيس حكومتهم يريد تفادي المفاوضات مع سوريا، وبالتالي الاتفاق، في فترة الاستمتاع بثمار الجوائز التي درّها عليه مسلسل الصلح المجاني.
ومفهوم سلفù أن رابين لا يريد التفاوض مع سوريا ولا الاتفاق معها في المدى المنظور، لأنه تعوَّد أن »يأخذ« أكثر مما يطلب، مجانù وبلا شروط، وأحيانù بلا توقع.
بهذا المعنى، فتحديده نيسان أمام كريستوفر ليبلغه وزير الخارجية الأميركي للسوريين كموعد محتمل لاستئناف المفاوضات ليس أكثر من »تقسيط« لإعلان الخروج من مدريد ومن المفاوضات المتعبة ومن مشروع الاتفاق الجدي الوحيد من أجل »سلام« يبقى في الأرض ويمكن أن يبنى عليه.
وليس في الأمر خسارة لسوريا أو لبنان، بل على العكس تمامù: إنها فرصة إضافية لانكشاف »المهرولين« الذين تحولوا الى مجرد أداة لإيذاء إخوانهم في حقوقهم، والذين سيعرفون متأخرين أنهم قد خسروا آخر ما كان لهم من قيمة في نظر الإسرائيلي والأميركي، ناهيك بالعربي ذاته.
والرهان مفتوح على غد مختلف.