طلال سلمان

انتهاء مرحلة انتقالية استثناء

كلما لوّح »العهد الجديد« بفتح الملفات جميعا صفق الناس وهلّلوا مستبشرين بأنهم سيشهدون، أخيراً، محاولة جادة لإنجاز بناء هذه »الدولة قيد التأسيس« التي لم تعرف الاكتمال عبر تاريخها السياسي الحديث..
فالناس يريدون أن يعرفوا الحقيقة عن قياداتهم السياسية جميعا، من حكام ومعارضين، خصوصا وأنهم يتناوبون الأدوار بلا محاسبة جدية، فمعارض الأمس يصير حاكم اليوم، وحاكم الأمس يصير معارض اليوم، وتذهب الاتهامات التي قد تتجاوز ذمته المالية الى وطنيته، أدراج الرياح… رياح عفا الله عما مضى!
لقد أطل »العهد الجديد« وكأنه امتداد لما قبله، لكنه الآن يقترب من القطع معه، وسط حملات تتخذ يوما بعد يوم سياقا تشهيريا عنيفا، عماده التهديد بفتح الملفات والرد بتحد قوامه الإصرار على فتحها لإظهار الحقيقة!
ما يعني المواطن أن تكون قضية »العهد الجديد« بناء دولة القانون فعلاً.
أن تكون خطواته الأولى »الاقتحامية« إعلانا بانتهاء »المرحلة الانتقالية« وطياً لأمر »الاستثناء« بذرائع سياسية ثبت بطلان ادعاءاتها التي فرزت الناس على أساس ولائهم للقائم بالأمر وليس للدولة وللقادر على إبطال القانون وليس للمؤسسات وحكم القانون.
إن الاجراءات الإدارية التي باشرها العهد، والتي سيكون لها ما بعدها، تبدو وكأنها خطوات أولى على طريق الآلام الطويلة، ويحب الناس أن يروا فيها إسقاطاً »للاعتبارات السياسية« التي أملت ذات يوم »اختيار« هؤلاء المديرين بالذات وتقديمهم على كل من عداهم من المواطنين، بمن فيهم الأعلى كفاءة والأفضل أهلية والأمتن خلقا، بذريعة أن »القائمين بالأمر« يثقون فيهم وفي ولائهم لجمهورية الطائف التي استولدت قيصرياً.
إن بين أعز الأماني أن يُعاد الاعتبار إلى الدستور والقانون والعلم والكفاءة، الى الالتزام القومي والوطني والأخلاقي، وهذه كلها قد ضاعت في غياهب الولاء الشخصي للوكلاء الحصريين للمذهبية والطائفية أو »للزعماء« الذين طالما غيّبوا الناس أو أغنوا عنهم على اختلاف العصور والعهود.
وليس من مصلحة العهد أن تبدو معركته لوقف الهدر والإصلاح الإداري ومعالجة التركة الثقيلة للعهد الماضي وكأنها ضد فرد بالذات أو ضد أشخاص معينين.
فقضية العهد الجديد كما حددها لنفسه وكما يتوقعها الناس منه أكبر من أن تختصر بمخاصمة أو بمصادمة من اختصر بشخصه أو اختصر به »العهد الماضي«، أي رئيس حكومات السنوات الست الأخيرة رفيق الحريري.
ولعل بين المفارقات ان رفيق الحريري نفسه قد رفع، يوم ان تولى السلطة، العديد من الشعارات المرفوعة الآن، ونادى بالاصلاح الاداري وحاول الوصول اليه بالصلاحيات الاستثنائية فعز عليه ذلك لان احكام »المرحلة الانتقالية« و»الاستثناء« بذريعة الولاء كانت هي المرعية الاجراء آنذاك، وبمعزل عما كان تصوره للاصلاح.
ان العهد الجديد بات محكوما، ومنذ بروز التعارض بينه وبين الحريري في لحظة التكليف، بأن يؤكد نفسه عبر إدانة »العهد الماضي«، واعلان »حالة طوارئ« لاثبات قدرته على وقف ما كان سائدا، مما كان يصنف في خانة الفساد والافساد والهدر والصفقات… وهي اتهامات طالما وجهها الحريري نفسه الى »حكوماته« الثلاث، لا سيما الاخيرة منها، منكرا »أبوتها« مبررا اضطراره الى ترؤسها بالضرورات التي تبيح المحظورات.
اما وقد وقع التصادم بين »العهدين«، وبأسرع مما كان متوقعا، فإن الناس يشكرون الله على ان هذا التصادم يقع خارج اطار مؤسسة الحكم لا داخلها لو ان رفيق الحريري تجاوز حكاية »التفويض« او »تجيير الاصوات« وقبل بتشكيل »حكومة العهد الاولى«.
فالتعارض بين رئيس الجمهورية الآتي معززا بتفويض شبه مطلق وبتأييد شعبي واسع وبوعد مفتوح بالتغيير وبين رفيق الحريري كرئيس لحكومة العهد الاولى، وهو من اقتحم دست الحكم، اصلا، »بتظاهرة« دعم حماسية محلية عربية ودولية، ثم اخرج نفسه او أخرج بما يشبه »الانقلاب«، كان من شأنه ان يعطل الحكم ويشل الدولة ويفاقم الازمات التي تضغط بأثقالها على المواطنين الذين لا تفتأ همومهم المعيشية تحاصرهم بالضيق باستمرار.
ان العهد الجديد أقوى من ان يحتاج شهادة بصلاحه من خلال اثبات فساد غيره،
والناس مع المحاسبة وضد الانتقام، مع القانون ضد الاستنساب، ومع انهاء المرحلة الانتقالية و»الاستثناء« بذريعة الولاء، ومن هنا فهم يطالبون بأن تفتح الملفات جميعا، ممن تتناولهم الاتهامات بسرقة خبز الفقراء واهدار المال العام، من خلال ممارساتهم طوال السنوات الماضية. والناس، اخيرا، مع الدولة لا مع الحكام بأشخاصهم،
ثم ان الناس يتمنون ان يرتفع مستوى السجال السياسي ليتصل بهمومهم الحقيقية في الحاضر وفي المستقبل، السياسية منها والاقتصادية، وأولها لمعرفة الحقائق والتعبير عن آرائهم في مناخ ديموقراطي وممارسة حقوقهم الطبيعية، ودائما في ظل القانون.
والناس مع الاصلاح، امس واليوم وغدا،
لكنهم يريدون ان يعرفوا كل شيء عن كل المسؤولين ليصدروا أحكامهم.

Exit mobile version