لا نهاية للمفارقات التي يقدمها المشهد الراهن في فلسطين المحتلة بالوجهين منه: الاسرائيلي الداخلي بتداعياته الدولية، وانتفاضة الأقصى بتأثيراتها المباشرة والبعيدة المدى على سلطة الحكم الذاتي بداية، ومن ثم على مجمل الأوضاع العربية، الأقرب فالأبعد، جغرافياًً وسياسياً.
المفارقة الاولى: بقدر ما تبدو »فلسطين« شعباً بلا دولة فإن اسرائيل تبدو »دولة« بلا شعب. ان صورة فلسطين »شعبية« تماما، لا »سلطتها« حكومة فعلية، ولا إدارتها »مؤسسات« جدية، بما في ذلك »الشرطة« وأجهزة الأمن، اذ في لحظة نزلت »فتح« الى الساحة وتولّت القيادة وما تزال، وان زاحمتها في لحظات، وبحدود منظمات اخرى أبرزها »حماس«.
أما اسرائيل فأشبه بدولة عسكرية كاملة، لا سيما بعد اضمحلال الفروقات »العقائدية« بين أحزابها ومنظماتها السياسية، بيمينها ويمين اليمين و»يساره« البائس، التي تكاد تستعيد صورتها الاصلية (العسكرية) من خلال تنافسها على موقع »الأكثر صلابة« و»الأعظم تشددا« او »الاقل ميلا للتنازل«… وكذلك من خلال وحدة موقفها الدموي من الانتفاضة بفتيتها وأطفالها والحجارة والمقلاع. لكأنها »الهاغاناه« و»شتيرن« و»الارغون« بربطات عنق ومناصب »رسمية«!
وكما كانت اسرائيل »دولة« من قبل إعلان الدولة، فإن فلسطين ما زالت »شعباً« يطالب بالدولة ويسعى إليها، ويقبل أبسط مظاهرها التي يحرص ياسر عرفات على استيفائها بالكامل مع كل دخول او خروج من والى مكاتب »السلطة« في غزة كما في رام الله او من والى المطار الذي ما زال أسير مقتضيات الأمن الاسرائيلي!
المفارقة الثانية: ان العالم كله يكاد يكون »داخل« اسرائيل، بمن في ذلك بعض العرب ومعظم أصدقائهم من »كبار المسلمين«، بينما يكاد العرب ان يكونوا خارج »فلسطين«، مفصولين عنها بالرغبة او بالعجز، و»سلطتها« تهرب من اسارهم لتلحق »بالاقوى« في منافسة لا تستقيم على الصعيد الدولي مع اسرائيل »الدولية« بالنشأة وبالاستمرار، فكيف وقد تماهت مع الولايات المتحدة الاميركية حتى ضاعت بينهما الحدود؟
المفارقة الثالثة: ان اسرائيل المنقسمة قياداتها، داخل كل حزب، ثم على مستوى الجسم السياسي عموما، حافظت على تماسكها في مواجهة مطالب الحد الادنى الفلسطينية، بينما تبدو الانتفاضة المجيدة، وبرغم البطولات والتضحيات العظيمة وإرادة التحدي النادرة المثال التي أظهرها شعب فلسطين، وكأنها »هبة« برغم تواصلها لأكثر من شهرين: فلا برنامج سياسياً ولا احتمال بجهد يبذل من أجل صياغة مثل هذا البرنامج، لا شعار مركزياً، ولا قيادة جدية (سياسية عسكرية) ومن ثم قيادة ميدانية تتوزع المهمات وتنسق الأدوار بين القوى السياسية والهيئات الاجتماعية. والحد الاقصى من المطالب المعلنة: لجنة تحقيق دولية وقوات فصل، ولو بلا سلاح، لا سبيل للحصول عليها بغير موافقة (متعذرة) من الاميركيين الذين لا يرضون للاسرائيليين الا ما يرضونه لأنفسهم.
ولعل اللبنانيين بالذات، من بين سائر العرب، أكثر من يتألمون وهم يشهدون تكرارا للإدارة العشائرية لمثل هذا الصراع التاريخي، بوجوهه المتعددة العسكرية والاجتماعية والسياسية.. وهم قد عرفوا »الطبعة الثانية« والاكمل منها في بيروت، بعد »الطبعة الاولى« في عمان بالاردن.
المفارقة الرابعة: ان »السلطة« ما تزال تمارس مناوراتها التكتيكية المكشوفة في مواجهة استراتيجية اسرائيلية ثابتة لها قوامها الداخلي والدولي ولها أبعادها الاقتصادية الثقيلة، بكل تأثيراتها على مصالح عظمى تحمي نفسها بحماية اسرائيل، بينما لم يصل التعاطف العربي مع انتفاضة الاقصى الى استيلاد قوة ضغط تهدد هذه المصالح او تؤثر بالسلب عليها.
لم تغير »السلطة« حرفاً في تكتيكها، ولم تبدل حرفاً في نهجها السياسي: تهرب من الرفض الاسرائيلي الى الوساطة الاميركية، وهي من ضمن السياسة الاسرائيلية وليست خارجها، فتعيدها واشنطن الى طاولة المفاوضات العبثية والمنهكة، مع إغراء بأن تستعين بالاقرب من العرب الى الاسرائيليين، وبأن ترضى بحصر اللعبة ضمن مقتضيات او مصالح الحكم الاسرائيلي… وهكذا تدور »السلطة« في الفلك الاسرائيلي، بغير قوة إسناد خارجية كافية، فلا يتبقى غير المساومة من موقع الاضعف، ويصير السقف »اتفاق أوسلو« او ما يعادله.
المفارقة الخامسة والتي نوردها من باب تنشيط الذاكرة ليس إلا: ان العالم ما زال يتصرف وكأن حقوق شعب فلسطين في أرضه وفي تقرير مصيره مشكلة أمنية داخلية اسرائيلية، المرجع الاول والاخير فيها حكومة اسرائيل، سواء أكانت بقيادة بيريز او نتنياهو او باراك. لا الدم المراق، ولا صور الاطفال المقتولين، ولا موكب الجنازات المتصل على امتداد شهرين او يزيد، ولا آلاف الجرحى، ولا طوابير المحتاجين الى قوت الكفاف من أبناء المخيمات، بل كل فلسطين، حرّك شعرة في ضمير المجتمع الدولي، أينك من كوسوفو، حتى لا نذكر سلوفينيا وكرواتيا وقريبا الجبل الأسود.
يبقى الامل في الداخل، الذي لا يقتصر تأثير فعله اليوم على فلسطين او على اسرائيل، بل هو يحفر عميقاً في المجتمعات العربية ممهداً لهزات تكسر الطوق الذي تحاصر به اسرائيل العرب جميعاً وتظهر فيه »دولتهم« كما »السلطة الفلسطينية« بلا قرار في انتظار واشنطن البعيدة!