أقاموا احتفالاً لا تنقصه “التورتة”. خمنت يوم دعوتي أنهم لن يجدوا التورته التي يتسع سقفها لشموع عددها بعدد سنوات عمر المحتفى به. تصرفوا، وكلهم من الشباب، بذكاء. جاءوا بشمعة قصيرة فتكاد لا ترى وقصيرة اللهب فأضعف نفخة من على البعد تطفئها. غرسوها برفق وانطلقوا بالأنشودة الخالدة يغنونها بالانجليزية ولسبب غير مفهوم يكررون الشدو باللحن نفسه ولكن بمفردات عربية. انتهى هذا الجزء من الاحتفال، كما ينتهي دائما، بنفخة أنفاس بعدد الحاضرين في اتجاه شعلة الشمعة النحيفة والضعيفة. كانوا على ما يبدو غير واثقين من قدرة المحتفى به على جمع هواء في رئتيه يكفي لإطفاء الشمعة من أول زفرة.
***
أينما التأم شمل كبير في العمر وشباب في مقتبله انطلق حوار ناطق حينا وساكت معظم الأحيان. يزعمون وبكل الثقة في النفس أنهم يعرفون كل شئ. هم لا يحتاجون مساعدة من كبير العمر أولا لأنه ضعيف الجسد وثانيا لأنه لا يعرف ما يكفي عن أنواع مشكلاتهم العصرية وثالثا لأنه بحكم التجارب القاسية والجسد الواهي يفضل ألا يجاهر أو يقاوم وفي حكم المؤكد لا يقاتل، ورابعا لأنه ابتعد بعدد السنين عن ساحات الحب وانفعالات العواطف المتقدة، وخامسا لأنه يقيس الجمال والأناقة والفوز والسعادة بمعايير فقدت صلاحيتها.
تعودوا رؤيته صامتا فازداد الظن بأنه لا يعرف ماذا يقول أو بماذا يعلق فهو يعيش خارج عصره أو في امتداد عصر انتهى. يتحدثون بلغة يعتقدون أنه لا يفهمها وهو في الغالب وفي سره يحتقرها وهم بكيد تلقائيتهم ممعنون في استخدامها.
***
يجلس الكبير مستمعا إلى ما يقوله الشبان ساكنا ولكن متأملا. تنطبع في مخيلته صورته مع هذا الشاب، إبنا كان أم حفيدا واقفا إلى جانبه على رصيف، يخططان لعبور طريق مزدحم بحركة المرور. يعرف أنه سيكون البادئ بالامساك بيد الشاب حماية له من جنون السائقين. يظن الشاب، مثل كل الشباب، أن كبير العمر يحمي نفسه. لا يعرفون أن اليد التي امتدت إليهم وهم أطفال صغار ما تزال ممدودة إليهم وقد أصبحوا شبانا يافعين. كم هم طيبون، يعتقدون أن كبير العمر لا يقرأ ما يفكرون ويسمع ما يدبرون؟. هكذا يعلق صامتا وهو في غمرة التأمل: صحيح أنني غائب معظم الوقت عن ملاعبهم ومسارح أحداثهم ولا أرى بالعين المجردة تفاصيل أفعالهم، ولكني أتمتع بموهبة تخص الكبار فقط، الكبار يعرفون كيف يفكر الصغار لأنهم كانوا صغارا بينما الصغار لن يعرفوا كيف يفكر الكبار حتى يكبروا هم أنفسهم.
ألا ترون أيها الكبار أنكم بفضل عمركم المديد تتميزون عن الشباب بل وكل الصغار؟. أنتم عشتم كل أعمارهم وهم لم يعيشوا بعد إلا القليل من أعماركم. لا شئ يدبرونه الآن في السر أو العلن لم تدبروه قبل عشرات السنين وتفعلوه وتتحملوا عواقبه. أكاد أكون متأكدا أن لا شئ يملأ خاطر شاب لم يسبق له أن مر بشكل ما على خاطر كبير في العمر في نفس عائلته أو دائرة معارفه. سمعت يوما كبيرا عاقلا ينصح كبيرا آخر أتاه يشتكي سوء معاملة الشباب له. نصحه بأن يجعل خبرته في الحياة محل طلب أكثر من أن يجعلها محل عرض دائم أو متكرر. قال له دع الشباب في عائلتك ومواقع عملك يسألونك الرأي والمشورة. لا تفرضهما ولا تكرر عرضهما. ثق أنهم يفضلونك صديقا متجاوبا ومتفهما عن راع يرتدي ثياب الوقار ويرفل في هيلمان الحكمة ولا ينطق إلا بالرأي الواحد القاطع.
***
جاءت وعلى وجهها ابتسامة إشراق ولهفة. قالت جئت إليك اليوم يا جدي بطلب أرجو أن تستجيب له. سألها بدهشة ولهجة عتاب، وهل رفضت لك طلبا من قبل؟. قالت حقا يا جدي فأنت لم ترد لي رغبة أو حاجة ولكن طلبي هذه المرة مختلف. طلبي لا يقتصر علينا نحن الاثنين، بل يتجاوزنا إلى آخرين عديدين أعرف أنك تخفيهم وراء ستائر سميكة. نسمع عنك من كبار العمر في عائلات أصحابنا ما لم تبح أنت لنا به. جدي من أنت؟. أخفيت عنا نحن شباب عائلتك حكايات من ماضي طويل. جدي تعالى نعقد صفقة. أنت تحكي لي عن ماضي لم أعشه وأنا أحكي لك عن مستقبل انتمي إليه. قل لي هل فاتنا الكثير بغيابنا عن هذا الماضي؟. أخبرني عن بعض هذا الماضي الذي طالما تمنيت أنت أن أعيشه أنا، يمتحنني وأمتحنه. هل أيامنا الراهنة التي نتشارك معا العيش فيها هي المستقبل الذي كنت تحلم به، أم تراها كابوسا ثقيلا سوف ينزاح عما قريب؟. تقول لنا دائما إن الماضي لا يعود ولكن معرفته تفيد. هات ما عندك يا جدي عن أمجاد الماضي ودروسه، حدثني عما فعله بكم وما فعلتموه، انت وأبناء جيلك والماضي كلكم معا، بنا وببلدنا، بوطنك الذي هو، حتى الآن على الأقل، وطني.
نكس جدها رأسه ليخفي دمعة فرت من عينه فسالت على خده. خاف أن تخدش دمعته سعادة حفيدته.
ينشر بالتزامن مع جريدة الشروق