اختار الرئيس إميل لحود توقيتاً مدروساً لإعلان ما كان يأمله أو يتوقعه منه اللبنانيون ويلحون في طلبه استنقاذاً لعهد لما يكمل سنته الثانية، ولا يريدون أن تُفرض عليه المفاضلة بين نظامهم الديموقراطي وبينه مهما كانت الذرائع أو المبررات أو الأخطاء في القراءة والتقييم.
فمع بلاغ السادسة من مساء الأحد الانتخابي الثاني الذي جاء مكملاً وموضحاً بشكل قاطع لدلالات بلاغ السادسة من مساء الأحد الانتخابي الأول، اكتمل خروج »الرئيس« من موقع الطرف، بالمخاصمة أو بالتحالف، بتأكيده العودة إلى الأصول الدستورية »وبلغة القانون والمؤسسات التي تحكم الجميع في لبنان بدءاً من رأس الدولة«.
يمكن اعتبار هذه العودة النصر الأول والأهم للديموقراطية، وقد حققته أصوات الناخبين الذين وجدوا أنفسهم فجأة في مواجهة لم يريدوها ولم يطلبوها ولا هم يرغبون فيها مع »مؤسسة الحكم«، وهو حكم لم يجئهم عن طريق الانقلاب العسكري، ولا بالثورة الشعبية، بل عبر مراعاة الأصول الدستورية، والحرص على حفظ دور المؤسسات، حتى لو كانت مبررات القرار سياسية أساسا وهي التي حددت المسار وآلية التنفيذ.
لولا هذه العودة الدقيقة التوقيت للرئاسة إلى موقع المرجع، لبدت نتائج الانتخابات وكأنها »انقلاب مدني« على الحكم كله، ولتعذر التعايش بين معارضة تصل إلى المجلس النيابي مكللة بنصر كاسح وبين حكم بدا من خلال انحيازاته وتحالفاته وهجماته المتواصلة والحادة جداً والتي تجاوزت كل عرف، وكأنه »المهزوم الأول« أو الوحيد في مواجهة طلبها أكثر مما فرضت عليه.
لقد أنقذ العهد نفسه، وترك حكومته تدفع ثمن الاخطاء والعجز عن الاصلاح الذي انتدبت نفسها له والذي لم تنجح في تسويق خطته ولا في اقناع الجمهور بالحيثيات التي طرحتها والتي تحولت الى محاكمة مفتوحة للعهد الماضي و»تركته الثقيلة« بشخص رئيس حكومة السنوات الست الاخيرة منه، رفيق الحريري.
وبالتأكيد، فإن اللبنانيين لم يكونوا يريدون مثل هذه النهاية السياسية المفجعة للرئيس سليم الحص، الذي احبوه الى حد أن نسبوه الى »ضميرهم« وقدروا فيه مزايا مفتقدة تقريباً في حياتهم السياسية.
ولعل مما يخفف من الاحساس بالذنب عند اللبنانيين، والبيروتيين منهم خاصة، يقينهم ان الرئيس الحص قد اختار لنفسه مثل هذه النهاية التي لا تتناسب مع تاريخ علاقتهم به، حين ربط مصيره ومستقبله السياسيين بنهج بدأ خاطئاً وكان لا بد من ان ينتهي بسقوط مدو.
لقد وُلدت حكومة الرئيس الحص »قيصريا«، وعاشت مدة اطول من المألوف »صناعيا«، وحُملَّت او حمّلت نفسها ما يفوق طاقتها من القرارات الخاطئة في الاصلاح الاداري كما في المحاولات البائسة للإنقاذ الاقتصادي ثم في المواجهات التي اتخذت طابع الانتقام من السلف عبر فتح الملفات كيديا، وصولا الى النزول الى الميدان الانتخابي بلباس الحرب، متجاهلة او غير مدركة لعمق الجرح الذي احدثه »الخطأ الاول« والذي لم تفعل الحكومة غير تحريك السكين فيه واهاجة »المجروح« ودفعه الى الرد بالسلاح الذي يملكه.
والحمد لله ان الرد جاء عن طريق الممارسة الديموقراطية، اي عن طريق الانتخابات التي برغم كل الشوائب في قانونها وفي تعليب اللوائح الخ اعطت الاحتقان الطائفي او المذهبي مخرجاً سياسياً، بحيث بات ممكناً احتواؤه ونقله من »الشارع« الى »المؤسسة« أي الى »الحاضنة الطبيعية« للعواطف والمطامح والمصالح التي تحرك التيارات والقوى والافراد، وتحمي المجتمع (والدولة) من سورات الغضب او من جموح التطلعات.
الحمد لله ان الرد جاء عن طريق الانتخابات وليس بأساليب أخرى كانت »تبشر« بها الحملة الإعلامية الرسمية التي تعتبرها الغالبية من اللبنانيين عاملاً اساسياً في استثارة المزاج الشعبي وفي دفعه الى قبول التحدي والى الرد بالسلاح الذي يملكه ديموقراطياً : الاصوات!
أما المنتصر الأكبر بالاصوات فكان تحديداً ذلك الذي استخصمه العهد، فجعله، منذ اليوم الأول، ضحية، وطاردته الحكومة التي جاءت بديلاً منه بطريقة شبه انقلابية على امتداد تسعة عشر شهراً، بلا هوادة، وبلا تنبه لحجم خسائرها وارباحه من هذه »الحرب« التي رآها الناس ظالمة او غير مبررة، وفي جميع الاحوال: غير ضرورية!
لقد اعطت بيروت رفيق الحريري ما لم تعطه لأي من زعمائها من رجالات الاستقلال او من الذين تناوبوا على الحكم باسمها منذ ان عرف لبنان الانتخابات وحتى اليوم.
لم تعطه نتيجة ممارساته خلال فترة حكمه، وهي ممارسات قد يختلف حولها الناس فيرى فيها البعض »خطايا مميتة« ويرى فيها آخرون نقصاً خطيراً، ويحمّلها خصومه المسؤولية عن الأزمة الاقتصادية الخطيرة التي يعيشها اللبنانيون والتي تنعكس على حياتهم ضائقة معيشية خانقة،
وهي لم تعطه فقط بسبب ما قدمه من مساعدات اجتماعية ومن منح مدرسية واعمال خيرية، سبقت وصوله الى الحكم،
ولا هي اعطته بسبب من ثروته الطائلة بكل وهجها الباهر،
لقد أعطته لأنه جسد في لحظة ما إحساسها بالظلم!
ولقد تكون هذه أغرب مفارقات الانتخابات والحياة السياسية في لبنان عموما: وهي ان يبدو »الملياردير«، رجل الاعمال الناجح، الذي اقتحم المسرح السياسي من باب الجهد لوقف الحرب والمصالحة وإعادة البناء، هو »المظلوم«، بينما الرجل الذي استقطب تعاطف الناس وحبهم بسبب اقترابه من صورة المواطن »المظلوم« بالحرب، و»المظلوم« بغنائم المصالحة، و»المظلوم« بممثليه السياسيين.
ولعل المفارقة الاخرى التي لا تقل غرابة تتمثل في ان الحكومة القائمة بالأمر في لحظة انتصار التحرير بالمقاومة، قد عجزت عن ان تنسب هذا الانتصار لنفسها، وعجزت عن توظيفه لصالحها، بل ولم يتمكن رئيسها ذاته الذي لا يشك اي مواطن في صفاء وطنيته من نسج شبكة تحالفات انتخابية على قاعدته كإنجاز لها فيه نصيب طيب.
اما الاستدراك الضروري والذي يفرض نفسه هنا فيتصل بالتمني بألا ينتشي الرئيس رفيق الحريري بهذا الانتصار التاريخي، فينسى اسبابه ومسبباته، وينسى وهذا هو الاهم اصحاب الفضل فيه من هؤلاء الناس البسطاء الذين نصروه مظلوما، والذين حمّلوه بأصواتهم اخطر مسؤولية واعظم عبء معنوي وسياسي، ورفعوه نحو المركل الخشن مثقلا بآمالهم العراض في معجزات لا يملك احد ان يصنعها منفردا، وبالكاد يمكن للجميع اذا ما تعاونوا ان يحدوا من مخاطر الانهيار الذي صار الناس يعيشون هاجسه آناء الليل واطراف النهار.
الاصوات أمانة ثقيلة بطبيعتها، والآمال أثقل منها وأشد وطأة.
وأمر جيد أن يكون الرئيس الحريري قد استبق انتصاره الكبير بكلام سياسي يترفع فيه عن الخصومة، ويمتنع فيه عن التباهي، فيمد يد التعاون الى الجميع، وأساسا الى »رأس الدولة«، لمواجهة اعباء المرحلة المقبلة ومحاولة اجتياز مصاعبها الهائلة.
فآخر ما يحتاجه لبنان في هذه اللحظة، المنتصرون على بعضهم بينما وطنهم كله مهدد بالغرق.
وفي اي حال، وبغض النظر عن المبررات، فلسوف يفتقد اللبنانيون في مجلسهم الجديد الرجل الذي ظل ملتصقا بضميرهم طوال سنوات محنتهم: سليم الحص، والذين يحسون اليوم انهم قد خسروه مرتين.