أخطر ما تكشفه تظاهرة العاشر من أيار بشعاراتها المطلبية التي لا يمكن أن تخفي استهدافاتها السياسية، أن الحكم في لبنان، بمؤسساته جميعاً التشريعية والتنفيذية، معطل تماماً ولا يملك القدرة على اتخاذ قرار.
إنه، بداية، منقسم على نفسه: لا الأكثرية أكثرية مطلقة بحيث يكون لها القرار بوصفها مصدره، فضلاً عن أن هذه الأكثرية هي حصيلة جمع بين أطراف سياسية ليس لها برنامج محدد للحكم، وليست لها بالأصل مواقف مشتركة من المسألة الاجتماعية مثلاً، ولا تملك رؤية اقتصادية موحدة…
وساذج ذلك الذي يفترض أن بيروت واحد هو برنامج للحكم أو خطة محصنة سياسياً واجتماعياً لاستنقاذ الاقتصاد الوطني أو ما تبقى منه.
ثم إن الحكم متعدد الرؤوس ومتعارض في استهدافاته، ومن الصعب إن لم يكن من المستحيل جمع هذه الرؤوس ذات المنابت الاجتماعية المختلفة وذات التوجهات السياسية المتباينة، على خطة وطنية للإنقاذ .
إن البرنامج المشترك أرقى بكثير من أن تتوصل إلى صياغته قوى متعارضة في السياسة ومتباينة في تشخيصها للأزمة، ثم إن معظمها مستحدث ويقوم على العواطف أكثر مما على المصالح، والعواطف متناقضة، بل متصادمة طالما هي تنبع من مناخ طائفي أو مذهبي مضاد للسياسة، بطبيعته، ومضاد للبرامج، ويجنح بحكم تكوينه الهش إلى التبسيط.
كان يمكن أن يكون بيروت واحد عنواناً من عناوين هذا البرنامج لو أن الحكم برؤوسه وقواه المختلفة قد توصل إليه عبر توافق سياسي جدي (وهذا مستحيل) بين قواعده، وعلى تشخيص صحيح للأزمة الاقتصادية بأسبابها الحقيقية ومفاعيلها الاجتماعية.. وبالتالي استنفار الشعب كله ليستنقذ وطنه من الانهيار، أو من السقوط رهينة الدين العام المتفاقم والذي تلتهم فوائده جزءاً مؤثراً من الدخل العام، وتشل قدرة الدولة على تلبية احتياجات شعبها فضلاً عن قيادته ولو بالتقشف الصارم إلى غد بلا ديون تلتهم عرق يومه وأمله بمستقبل آمن لأبنائه.
كيف لحكم منقسم على نفسه، في الرؤية السياسية وفي فهمه للمسألة الاجتماعية، وفي تحديده لأسباب الانهيار الاقتصادي والمسؤولية عنه، أن يتفق على مشروع يعيد إنتاج أسباب الاختلاف، بل يفاقمها إلى حد التفجّر، خصوصاً في مناخ الطوائفيات والمذهبيات الذي عطل السياسة وزوّر طبيعة الخلاف، كأنما الرغيف مطلب لفئة ومصدر هزيمة لفئة أخرى.
لقد تمّ تطئيف الرغيف! وتمت مذهبة الوظيفة الحكومية ومرتّبها الذي لا يكفي في الحاضر ولا يؤمّن المستقبل.
ولقد ضُخّمت إشكالات سياسية حتى صارت أزمات.
ولقد صُوّر الخارج البعيد كأنه مصدر الحل في حين أن الجار القريب هو مصدر المشكلة، مع الوعي بخطورة المردود الاقتصادي لمثل هذه الخطوة.
بل صُوّرت الدول الكبرى كأنها الملجأ الأمين والمنقذ المبادِر الذي ستأخذه النخوة ، مرة أخرى، فيأتي لنجدة لبنان الضعيف بلا قيد أو شرط، ويزرع سماءه بغيوم من ذهب تمطر عليه مليارات الدولارات، ثم ينصرف من دون أن ينتظر كلمة شكر.
إن الأزمة أخطر من أن تُحَل بالقرارات المرتجلة التي قد لا يعترض عليها أصحاب الحق بالاعتراض لأنهم لا يملكون برنامجاً وطنياً للإنقاذ. فمثل هذا البرنامج يحتاج الى مناخ من الوئام الوطني، ويحتاج الى التوافق على الثوابت الوطنية، ثم إلى رؤية اقتصادية علمية تأخذ في الاعتبار إمكانات البلاد وشعبها وهي تفرض عليه خدمة العلم الاقتصادية .
في غياب ذلك كله، سيتعاظم الشرخ في قلب السلطة فيعطلها تماماً، ويبقى الشارع مفتوحاً للانقسام الذي سوف تغذيه رياح الفتنة التي يضخها الأجنبي باعتبارها استثماره الأهم.
… ودائماً كان الشارع في لبنان مفتوحاً للمسألة الاجتماعية التي هي عنوان الأزمة السياسية، وبالتالي المدخل إلى التغيير..
ولكن ماذا مع استحالة التغيير بالطرق الديموقراطية؟!
ذلك هو السؤال الذي خلفته تظاهرة الأمس في الشارع، وهو مرشح لأن يملأ الأفق غداً.