طلال سلمان

انجاز اخطر حرب اسرائيلية توحيد لبنانيين على عدائها

حققت إسرائيل بحربها على لبنان إنجازاً غير مسبوق: لقد وحّدت صورتها في عيون جميع اللبنانيين، على اختلاف توجهاتهم السياسية، أو بالأحرى على تعدد انتماءاتهم الدينية والطائفية. إنها العدو!
ليس سراً أن اللبنانيين كانوا يرون إسرائيل في صور متباينة إلى حد التعارض:
بينهم من كان يرى فيها العدو المطلق بالمعنى الديني كما بالمعنى الوطني، ولم يكن يقبل نقاشاً لهذا العداء، كائنة ما كانت الذرائع السياسية.
وبينهم من كان يرى فيها العدو الوطني والقومي، ولكن العجز عن مواجهته بالشعار الأصلي للمعركة القومية الفاصلة، والحرص على السلامة الوطنية، يجعل هؤلاء يسلّمون مكرهين بوجود إسرائيل، كدولة، ويرفضون الصلح معها أو التطبيع لأسباب وطنية يعززها استمرارها في احتلال بعض التراب الوطني، ومواصلتها تهديد لبنان ومحاولة ابتزازه سياسياً في هويته وفي دوره العربي، وبالذات في علاقته بالقضية الفلسطينية… لا سيما ان لبنان طرف في هذه القضية لأسباب تتجاوز ما هو عقائدي أو عاطفي إلى ما هو عملي: إن في لبنان مئات الآلاف ممن ألجأهم إليه احتلال الإسرائيليين لأرض فلسطين وطردهم نصف شعبها منها، قبل ثمان وخمسين سنة. ثم إن الحرب الإسرائيلية على وطنهم لا تمنع فقط عودتهم إلى أرضها بل تنذر بأن تحوّل من تبقى فيها إلى لاجئين وبينهم من كان يرى فيها، وبقوة الأمر الواقع، دولة جارة أقيمت بالقوة، وعلى حساب شعب آخر، لكنها موجودة .
جيرتها غير مستحبة، إنما لا بد من التسليم بوجودها، ولو بالإكراه، مع تجنب أي علاقة معها حتى لا يخسر لبنان دوره العربي.
… ونختم بتلك الفئة التي توهّمت، ذات يوم، أن بالإمكان كسر الحرم وبالتالي حاجز العداء وإنشاء علاقة تتجاوز التطبيع إلى التحالف مع إسرائيل، والتي فرضت على لبنان أن يدفع غالياً نتيجة ذلك الوهم، مع الإشارة إلى أن بعض رموزها كانوا أولى ضحاياه.
إسرائيل اليوم، وبعد حربها على لبنان، بكل الوحشية التي مارستها، في قتل أبناء الحياة وأسباب الحياة، والتي تمددت من أقصى الحدود جنوباً إلى أقصاها شرقاً وشمالاً، فضلاً عن البحر، هي العدو ، فقد آذت اللبنانيين جميعاً في يومهم وفي غدهم، في رزقهم وفي اقتصادهم الوطني، في حقهم بأن يكون لهم مستقبل في أرضهم وفي ظل دولتهم.
ولقد كشف اللبنانيون، بداهة، خبث الخطة التي اعتمدتها إسرائيل في حربها على لبنان: انتبهوا إلى أنها قد تقصدت ان تستهدف مناطق معينة، تنتمي أكثريتها إلى الطائفة الشيعية… كأنما تريد ان تقول لهم ان الشيعة وحدهم المستهدفون بوصفهم البيئة الحاضنة ل حزب الله ، فمنها قيادته ومقاتلوه وتنظيمه السياسي وهيئاته الاجتماعية والتعليمية الخ..
ركزت إسرائيل حربها على الجنوب وعلى الضواحي الجنوبية لبيروت وعلى البقاع الشمالي، مع استثناء مقصود للقرى التي لا تنتمي غالبية سكانها إلى الطائفة الشيعية، وكأنها كانت تقول: إن الشيعة وحدهم عدوي في لبنان، بينما سائر اللبنانيين على الحياد ،. بل لعلها أرادت الإيحاء بأن بعض اللبنانيين معها في حربها على الشيعة ، وأنها بذلك تقدم خدمة لسائر الطوائف بتحجيم الشيعة وضرب حزبهم المسلح والذي صورته وكأنه دولة داخل الدولة ، أو أكثر من ذلك: مانع لقيام الدولة التي تحرص إسرائيل أشد الحرص على قيامها إلى جوارها.. في الشمال !. كما قال الكثير من المسؤولين ومن الخبراء والمفكرين والكتاب الإسرائيليين!
لكن الحرب على الشيعة كانت تقتضي تدمير نصف لبنان تقريباً!
وكان من حق من افترضتهم إسرائيل على الحياد ان يتساءلوا: وهل مطار رفيق الحريري الدولي شيعي وكذلك مطارا رياق والقليعات المعطلان عن العمل، وكل مرافئ بيروت وطرابلس وصيدا وصور شيعية ؟! وهل الجسور، عظيمها والكبير وصغيرها والذي لا يزيد عن كونه عبّارة في المناطق الريفية يملكها الشيعة أو لا يعبرها إلا الشيعة؟!
ثم هل الاقتصاد اللبناني الذي أصيب بنكسة خطيرة تحتاج معالجتها إلى جهود استثنائية وإلى مساعدات خرافية هو اقتصاد شيعي؟!
وهل المرافق العامة جميعاً، والمؤسسات والإدارات التي تم تعطيلها بالتدمير أو بالقصف المانع للإنتاج هي شيعية ؟!
ولعل التهجير كان أخبث الأسلحة التي لجأت إليها إسرائيل في حربها على لبنان، وكانت تتوقع له نتائج حاسمة على مسار الحرب: وهكذا فقد أطلقت طيرانها الحربي يدمر البيوت في مختلف أنحاء الجنوب، وفي ضواحي بيروت الجنوبية وفي البقاع شرقاً وشمالاً، مما تسبب في تهجير أكثر من مليون مواطن، كان طبيعياً أن ينزحوا إلى ما افترضوا أنه مناطق آمنة لأن أهاليها ليسوا من الشيعة، بل هم من أديان وطوائف أخرى..
كانت إسرائيل تتوقع ان يثير تهجير هذا المليون شيعي اضطراباً ومنازعات وصدامات بين الشيعة المهجّرين من بيوتهم في مناطقهم وبين الأهل في مناطق أخرى.. لكن ذلك لم يحدث بل حدث ما هو بديهي: فتح اللبنانيون على اختلاف انتماءاتهم الدينية والطائفية وتوجهاتهم السياسية، قلوبهم قبل بيوتهم ومدارسهم والمؤسسات الخاصة وصولاً إلى الأديرة والكنائس، لإخوتهم الذين هجرتهم الحرب التي يشنها من لا اسم له ولا صفة إلا: العدو…
لم يكن في الأمر إشفاق وإحسان. كان التضامن الوطني في أجلى صوره وفي أسمى معانيه.
كانت الجريمة واضحة وضوح الشمس، وكان العدو بلا قناع: إسرائيل!
لم يكن لاقتلاع أكثر من مليون مواطن من ديارهم ومنازلهم إلا معنى واحد: ان إسرائيل تستهدف لبنان كله، وخصوصاً أن هذا الاقتلاع قد واكبه تدمير كل الجسور والطرقات وكل وسائل النقل، من أقصى لبنان إلى أقصاه.
ثم إن هذه الحرب قد استهدفت الجيش أيضاً، فأغار الطيران الحربي على العديد من المواقع التي يعرف أن ليس فيها إلا المنتمون إلى الجيش اللبناني… بل هو أغار على بعض المواقع والجنود نيام، فكان ان دفعت هذه المؤسسة الوطنية ضريبة الدم شأنها شأن سائر المؤسسات، وإن كانت الدلالة هنا صريحة تماماً: إن إسرائيل لا تريد للبنان دولة!
ها هو لبنان المدمّر نصفه، تقريباً، يقف شاهداً على الجريمة…
وها هو المجرم الذي لم يستطع تحقيق أهدافه المعلنة كاملة يعترف بأنه أخطأ التقدير، وأن لبنان موحد بشعبه ودولته أكثر بكثير مما قدّر، وأكثر مما اعتمد في حساباته من تأثير للخلافات السياسية التي كانت قائمة، والتي ما تزال قائمة بين القوى والقيادات ذات التوجهات المتباينة والمتعارضة، ولكنها لم تصل أبداً إلى الخلاف على الوطن الواحد والدولة الواحدة.
… والتي أضيف إلى أسباب توحدها، بالمعنى الوطني، توكيد توصيفها لإسرائيل التي تسببت في هذه الحرب بكل نتائجها الكارثية: إنها العدو.
وهذا إنجاز وطني عظيم سيساهم في تعزيز حماية لبنان كله من حروب إسرائيل.. المقبلة!

Exit mobile version