الصحف العربية صفحات نعي أوطان، تساعدها الإذاعات مسموعة ومرئية في نعي الشعوب، وتكمل وسائط التواصل الاجتماعي جهدها في السخرية من العروبة وأحلام الوحدة وحق الإنسان العربي في التقدم، بل في الحياة.
تغتال المدن ذات التاريخ والدور الثابت في الحضارة الإنسانية، كما حلب والموصل، بعد بغداد وتدمر، صنعاء وتعز وعدن، طرابلس (الغرب) وبنغازي، فإذا بـ «العرب» (والمسلمين عموماً) مجموعة من السفاحين قتلة المدن والنساء والأطفال، رجالهم متوحشون ونساؤهم أرامل هائمات على وجوههن، تحمل الواحدة رضيعها على صدرها وتمسك بيد الابنة بينما الأبناء يتعلقون بأذيالها وهم يقصدون خلفها اللامكان، هرباً من الجحيم.
تصدر البلاغات العسكرية عن المواجهات المظفرة للجيش الباسل أو للميليشيات الطائفية المسلحة، في حين تأتي بيانات «الجهاد الثورية» متعددة الأسماء والهوية لتتحدث عن الانتصارات المؤزرة للمجاهدين الأبطال على الكفرة من الخارجين على الدين الحنيف.
كل طرف يتباهى بعدد قتلاه من «الكفرة الإرهابيين» مخفياً ما أمكن عدد قتلى معسكره، فإذا المجموع يفوق عدد سكان مدينة بحجم حلب والموصل وصنعاء وطرابلس الغرب معاً.
يطرق حزناً أو خجلاً ذلك المواطن الذي كان ذات يوم عربياً يتطلع إلى وحدة تجمع أشتات الأمة ومدخلها بالتأكيد (أو نتيجتها الحتمية تحرير فلسطين من براثن الصهيونية العالمية المعززة بالامبريالية والاستعمار القديم)، ويأخذه الخجل من حاضره والخوف على مستقبل أولاده الذين ينكرون هويتهم ويجهلون لغتهم حتى إذا هم أجبروا على حفظ القرآن الكريم.
يهرب سعداء الحظ ممن لم تقتلهم المدافع والصواريخ والقذائف التي بات لها أسماء دلع من أوطانهم، عبر البر، حتى بلوغ البحر في بلاد أخرى، فيركبون زوارق لا تستطيع الصمود للأمواج الصاخبة أو للرياح العاتية. قد يغرق العديد منهم، مئات مئات، فلا يهتم لهم الناجون لأنهم مشغولون بهمّ النجاة، وبعدها تجيء الهموم الثقيلة الأخرى.
لا سياسة، لا اقتصاد، لا جامعات، لا مستشفيات، لا مدارس، الصبية في الشوارع، الأرامل والبنات يلتجئن إلى بعض ما تبقى من بنايات مهدمة، والمقاتلون ملثمون أو مكشوفو الوجوه بالملابس المختلطة، عسكرية ومدنية، والرشاشات في أيديهم وأمامهم المدافع المجرورة على عربات ضخمة يتبارون في حشو مخازنها بصواريخ القتل والتدمير ثم يبتعدون إلا من يسحب الحبلة لتنطلق قذائف الموت الجماعي.
تصدر البلاغات الحربية من الأطراف جميعاً، وكل منها يناقض الآخر، تتهاوى أعداد القتلى جثثا لا تجد من يرفعها، وكل يزايد، فالراحلون هنا شهداء أبرار وهناك سفاحون وقتلة وكفرة يستحقون الموت رمياً بالرصاص وإلى جهنم وبئس المصير.
تتهاوى مدن التاريخ صرعى. تنهب آثار الحضارات التي قاومت الزمن وصمدت لاجتياحات الأغراب، مغولاً وصليبيين وأنواعا شتى من المستعمرين الذين تعاقبوا على هذه البلاد، ويباشر أهلها إعادة إعمارها بحهد العقول والزنود وتحديث بنائها لتليق بالغد، بالجامعات والمستشفيات والحدائق ودور العبادة ذات الخطوط المنقوشة بالنحاس مخلوطاً بالفضة.
يسقط الحاضر مضرجاً بدماء أهله، ويتهاوى المستقبل في قلب الركام. تفقد كل من هذي البلاد دولتها. يفقد مواطنوها شعورهم بالأمان، لأنهم يحبون الوطن ومستعدون لافتدائه بدمائهم لو أنهم قادرون. لكن العسس ما زالوا يطاردون «المشبوهين» والخارجين عن طاعة النظام المتآمرين ـ الجواسيس ـ عملاء الامبريالية والصهيونية.
تجيء الدول، بدعوة أو من دون دعوة، تتقدمها مصالحها وأغراضها بغير أن تهتم بأعداد القتلى والجرحى والبيوت المهدمة (التي غالباً ما تكون الذريعة)، البعض لحماية «النظام» والبعض الآخر لرعاية المعارضات المختلفة ومساعدتها على إسقاط النظام ولو بتدمير البلاد على رؤوس العباد.
يقاتل العرب العرب، يفرح هؤلاء كلما تزايدت أرقام الضحايا من أولئك. يدفع عرب النفط كلفة القتل والهدم والتدمير ويتسابقون على إصدار بيانات الإدانة والاتهامات بإجرام النظام المقصود والتشهير بجرائمه ضد الإنسانية.
لا فلسطين في الذاكرة. لا أثر للعدو الإسرائيلي في جدول الأعمال.
يغادر المتمولون وأصحاب النفوذ البلاد بالرشوة والشفاعات النافذة. يذهب بعضهم إلى المعارضات المختلفة، ويدعمها سراً ببعض أمواله المنهوبة من خيرات بلاده، يُحرّض المقاتلين على القتال بشراسة أشد. يذهبون إلى «الدول» يتذللون ويستعطفها دعم «الثورة»، هم الذين يعتنقون كلمة «ثورة» ويكرهون الثوار الذين يرونهم مخربين ومتآمرين على حياة البلاد والعباد.
تتعامل «الدول» مع العراق وسوريا واليمن وليبيا، على أنها الأرض الخراب. ما يهمها هو النفط، حيث وجد، أما ما ليس فيها نفط فليضربها الزلازل.
فجأة يصبح لدول النفط جيوش بطائرات مقاتلة لم نعرف عنها في الحروب الإسرائيلية، وقوات مدرعة، وحوامات بصواريخ، وجنرالات يخرجون علينا ببلاغاتهم التي تركز على خسائر العدو وتهمل خسائرهم.
تشتري دول النفط بعض ذوي الأسماء المعروفة، وكثيراً من شيوخ القبائل، تموّلهم، تطلب إليهم تجنيد رجالهم وقبائلهم للتحرير. تنشئ لهم الحكومات والرؤساء والوزارات والجيوش التي تموّه تدخلهم المباشر. تدفع مليارات المليارت طلباً لنصر مستحيل، وتهدم البلاد التي دفعت أجيالاً من أبنائها كلفة لإعمارها.
تدخل الدول الحرب بالمرتزقة والخارجين على بلادهم. تموّل وتسلح وترسم خطط التهديم والتدمير. ثم ترسل إلى «النظام» تفاوضه على النفط حيث وجد، أو على القواعد العسكرية، وعموماً على التبعية وأول بنودها الصلح غير المشروط مع من كان عدواً للأمة جمعاء: إسرائيل.
إلى أين من هنا؟
سقطت اللغة العربية من أفواه أبنائها. أولادنا لا يعرفونها. اختطفتهم الحداثة من قبل أن يعرفوها. يتبادلون أحاديثهم على الكومبيوتر ومشتقاته. سقط الكتاب صريعاً. سقطت الصحافة العربية أو تكاد، بعضها صار في حريم السلطان، والبعض الآخر يعاني من ارتفاع الكلفة والتناقص الفاضح في أعداد القراء وانعدام الإعلان التجاري.
ويسألونك عن أحوال العرب.
بلادُ العُربِ أوطاني من الشام لبغدانِ
نشر هذا المقال في جريدة “السفير” بتاريخ 21 كانون الأول 2016