لم يستخدم مارتن إنديك التأشيرة التي طلبها من السفارة اللبنانية في واشنطن، مع مساعده، لسبب ما، ولا هو عمل بنصيحة السفير الأميركي في بيروت ديفيد ساترفيلد حول ضرورة أن تشمل جولته »المشرقية« لبنان،
اكتفى إنديك بطمأنة بيروت من دمشق عن صحة تفاهم نيسان: »لم نبحث في تغيير هذا الاتفاق بل بتطبيقه بصورة فعالة«، والمهم معرفة المعنى الحقيقي لكلمة »فعالة« في هذا السياق،
وفي غياب التفسير الواضح لمبررات التعديل الأول (إضافة بيروت) إلى جولة إنديك، ثم التعديل الثاني (حذف الزيارة)، تتعدد الاستنتاجات أو التقديرات، لكن ذلك كله يظل هامشيا بالنسبة لهذه الجولة وهدفها المعلن والمحدد: الوضع في العراق.
… واستثناء إسرائيل من هذه الجولة يأتي تأكيدا على أن مهمتها محصورة فعلاً في »العراق«، فقد راعى إنديك الحساسيات العربية (والسورية بالتحديد) من الإشراك العلني لبنيامين نتنياهو مع القادة العرب في مناقشة مستقبل النظام العراقي، وهي في هذه اللحظة مناقشة لمستقبل العراق، دولة وشعبا وهوية ودورا، وليس بحثا مجردا في مصير صدام حسين.
ولعل إنديك قد حصل في أنقرة على »الجائزة الكبرى«، إذ لا بد انه طلب ولا بد، أن الأتراك قد لبوا طلبه بالانضباط داخل الخطة الأميركية ازاء العراق، كنوع من »رد الجميل« على المساعدة الحاسمة التي قدمتها الإدارة الأميركية عموما، والمخابرات المركزية تحديدا، »لاصطياد« زعيم الأكراد وبطلهم الوطني عبد الله أوجلان.
وربما بفضل هذه »الجائزة الكبرى« يفترض إنديك أنه يستطيع أن يسائل دمشق، وإن كان يعرف أنه لا يستطيع أن يضغط عليها، حول »تطور علاقاتها« مع بغداد، خصوصا وأنه مسلح بنتائج الجولات الأميركية المتعاقبة »لحشد التأييد الخليجي«، وبينها جولته شخصيا هناك، التي سبقت وربما مهّدت لجولة »الإنذار«« التي بالكاد أنهاها قبل أيام وزير الدفاع الأميركي (التاجر الأكبر للسلاح الباهظ التكاليف حتى لو كان فاسدا أو غير قابل للاستخدام بأيدي مشتريه الخائفين).
وربما يفترض إنديك أيضا أن العرب عموما قد »اعتادوا« فقبلوا أو سلَّموا بأمر حرب الاستنزاف اليومية التي يشنها الطيران الأميركي البريطاني ضد العراق، لا فرق بين الأهداف وسواء أكانت عسكرية أم مدنية، فصار ممكنا الانطلاق في البحث مما بعدها… مستفيدا من أن الصمت عن هذه الحرب القذرة يجعل العرب أضعف، ويفتح أمام واشنطن وتل أبيب الطريق لإضعافهم أكثر فأكثر.
ومؤكد أن دمشق تعرف أن مثل هذا الإضعاف المنهجي للموقف العربي، بذريعة ضرورة السعي لإسقاط النظام العراقي أو هلهلته بحيث لا يعود يخيف أحدا، سينعكس مباشرة وبقسوة على القضية العربية الأصلية، أي الصراع العربي الإسرائيلي، فينشغل العرب كلية عن فلسطين وقدسها الشريف، وعن سوريا ولبنان والمفاوضات المعلقة و»عملية السلام« التي تعاني سكرات الموت،
كأن واشنطن بذلك توفر تغطية إضافية للهجوم الإسرائيلي المتواصل على آخر قلاع الصمود العربي، إذ لا تكتفي بقطع كتلة أساسية من الجسم العربي (الجزيرة والخليج) فتفرض عليها تركيز اهتمامها على أمنها الذاتي بعيدا عن مشاكل العرب الآخرين، بل هي تضيف الى قوة إسرائيل موضوعياً عبر إشغالها دمشق بالتداعيات الخطرة المحتملة للوضع في العراق… هذا إذا ما تجاهلنا ما روّجته وسائل الإعلام الأميركية والإسرائيلية من أن إنديك سيحاول (إن هو استطاع!!) أن يسائل القيادة السورية حول مساعدات عسكرية، لا سيما في مجال الدفاع الجوي، تقدمها للجيش العراقي الذي يتعرض لعملية إنهاك وتشتيت واستنزاف يومية تشله حاضرا وتعطله مستقبلاً عن لعب دوره الوطني في حماية وحدة العراق وتأمين كيانه السياسي.
ولم يستطع مارتن إنديك أن يخفي الخلاف مع دمشق حول موضوع العراق تحديدا، فاكتفى بأن أشار الى أنه »برغم الخلافات في وجهات النظر إلا أننا كنا متفقين حول الحاجة الماسة إلى التزام العراق الكامل بقرارات الشرعية الدولية«.
… والأمر ليس القرارات بل عراق اليوم، واستطرادا عراق المستقبل، موقعه من أمته عموما، وسوريا معنية بهذه المسألة الخطيرة بقدر أهل الجزيرة والخليج وربما أكثر، وأكثر بالتأكيد من الأميركيين، ناهيك بالعدو الإسرائيلي الذي قالت »هآرتس« باسمه: »ان المنظمات اليهودية الأميركية أبلغت الإدارة بأن هذه التقارير (عن التعاون السوري مع العراق) يجب أن تحدث قلقا عميقا لدى كل مواطن أميركي«..
ولم تنسَ الصحيفة الإسرائيلية أن تضيف »ان محافل أميركية أخرى، غير يهودية أعربت مؤخرا عن انزعاج متزايد من »سياسة المهادنة« التي تتبعها الإدارة تجاه سوريا«.
وقبل حوالى أربعة أشهر كان مارتن إنديك قد أبدى رغبته في زيارة دمشق، وحين قيل له: »بمعزل عن أنك ستكون على الرحب والسعة في أي وقت، فهل تحمل جديداً لكي تكون للزيارة نتائج مقبولة؟«، رد إنديك بأنه إنما يريد أن يجيء ليستكشف وليبحث في إمكانات التمهيد للجهود الضرورية لإحياء العملية السلمية.
وواضح من السياق، ومن محطات الرحلة الجديدة لانديك، ومن توقيتها، ومن عنوانها المعلن أنه كأنما جاء لهدف مغاير للذي تحدث عنه قبل أربعة شهور،
و»عراق« هذه الأيام يصلح عنوانا لمواضيع كثيرة، معظمها يتركز على استغلال الضعف العربي العام لابتزاز العرب المزيد من التنازلات الجوهرية في قضاياهم التي كانت مقدسة.
على أنه لا بد من المواجهة، ولا بد من تأكيد القدرة على الصمود، ولو بالتغاضي عن طبيعة النظام القائم في بغداد، حتى لا تدفع بعض العواصم العربية أثمانا باهظة لتأمين نفسها ضد صدام حسين لتكتشف في النهاية أنها صارت في أحضان نتنياهو من غير أن تنجح في إسقاط »بطل القادسية« و»حارس البوابة الشرقية« للأمة العربية.
1