طلال سلمان

انان هتشكوك وحربة ظالمة

منذ أن قررت إسرائيل إجلاء قوات احتلالها عن الأرض اللبنانية تحت ضغط مجاهدي المقاومة وصمود الشعب والدولة في لبنان، نشأ »سوء تفاهم« غامض الأسباب بين المسؤولين في بيروت وبين الأمين العام للأمم المتحدة كوفي أنان.
وعلى امتداد السنة المنقضية على الجلاء الإسرائيلي فإن »سوء التفاهم« أخذ يتعاظم حتى بلغ حدود »الحرب المفتوحة« تحت عناوين متعددة لإشكالات تمتد بطول »الخط الأزرق« ولا تتوقف كلياً عند »مزارع شبعا«.
وها هو السيد أنان يظهر، الآن، وبلا مقدمات، عند أطراف تلك المزارع المحتلة في ثياب مخرج أفلام الرعب ألفرد هيتشكوك..
وها هي المنطقة تتعرض لمزيد من الاضطراب والقلق نتيجة فيلم الرعب الجديد الذي أنزله الأمين العام للأمم المتحدة إلى »الأسواق« بغير سابق إنذار، بل وفي ما يشكل سابقة خطيرة تكاد تتحول معها القوات الدولية إلى »مخبرين« لدى الاحتلال الإسرائيلي!
فلا أحد يعرف السر في إقدام السيد أنان على عرض شريط يقول إن بعض الجنود الدوليين قد صوَّروه في اليوم التالي للعملية الفدائية الفريدة في بابها والتي نجح خلالها مجاهدو »حزب الله« في أسر ثلاثة من جنود العدو الإسرائيلي في بعض مكامنهم الممتازة التحصين داخل الأرض اللبنانية المحتلة (بعد..).
لا التوتر أو سوء الفهم أو سوء التقدير يبرر مثل هذا التصرف الأخرق يصدر عن رجل يشغل المنصب الفخم في موقع »ضمير العالم«.
ولو فرضنا، جدلاً، أن الأمين العام للأمم المتحدة قد اختلف في الرأي أو في المعلومات مع أهل السلطة في لبنان، فإن ذلك لا يبرر له أن يقدم مثل هذه الخدمة الاستثنائية (والتي لا يمكن أن تكون مجانية) لإسرائيل، بينما هي متورطة في مذبحة يومية مفتوحة ضد الشعب الفلسطيني، فضلاً عن أن ضحايا احتلالها لبنان (شهداء وجرحى وأسرى ومرافق مدمرة وكهرباء مقننة ومنازل منسوفة) يشكلون عناوين الأخبار، حتى اليوم، فضلاً عن المرشحين للإعاقة أو الاستشهاد »بأفضال« غابات الألغام المزروعة في الأراضي التي كانت تحت الاحتلال الإسرائيلي.
لقد عاش الجنود الدوليون مع المواطنين في المناطق المحتلة أو المحاذية »للشريط« ثلاثا وعشرين سنة من الود والوئام والتعاطف (والمصاهرة) حتى اليوم، من دون أن يقع حادث واحد يعكر صفو هذه العلاقة.
فمن »هندس« حكاية هذا الفيلم الهيتشكوكي، وبهذا التوقيت اللافت والذي يكاد يدل على »المريب« الذي يقول »خذوني«؟!
* * *
كان ينقص، بعد، مثل هذا الفيلم حتى يتبدى لبنان وكأنه »خارج على قوانين الطبيعة.. والسياسة« جميعا!
فهو قد ذهب إلى المقاومة، وضد الجبار الإسرائيلي المزهو بانتصاراته بينما الكثير من العرب يتهافتون على الصلح المنفرد، المعلن أو السري معه، ويمسحون من ذاكرتهم حكايات المقاومة ويسحبون من الأسواق الأغاني والأناشيد والصور التي كانت تمجّد الفدائيين وتحرّض على القتال وتبشّر بإمكان النصر على العدو الصهيوني..
ثم إن لبنان قد صمم على استرجاع آخر ذراع من أرضه المحتلة بينما الدول، كبراها قبل الصغرى، تنخرط في »العولمة« وتفتح حدودها وتلغي الجمارك وتتنازل عن شعارات »السيادة« و»الاستقلال« لتنسجم مع مقتضيات حرية التجارة العالمية، وهو خطير وكثير!
وهو »يتحدى« الإرادة الأميركية التي لا تُردّ، فيرفض نشر جيشه على امتداد الحدود، بحيث يطمئن إسرائيل إلى أن المقاومة قد انتهت.
كل ذلك بينما حجم ديونه يتفاقم متجاوزا ليس فقط إمكاناته الراهنة، بل وما يمكن أن يكون تحت أرضه أو في أعماق بحاره أو في عقول أبنائه من كنوز مخبوءة!
وكل ذلك بينما وارداته تزيد ولا تنقص مستنفدة ما لديه من دولارات وصادراته تنقص ولا تزيد فيبقى إنتاجه الزراعي والصناعي كاسداً في أرضه، وتكاد تجارته تبور، وهو الفينيقي المغوار!
وكل ذلك بينما أهل السلطة فيه لا يتصالحون حتى يختلفوا من جديد، وتقوم على خلافاتهم »جبهات« تطالب بالحوار محددة لنفسها برامج هي من صميم عمل السلطة الشرعية… المنتخبة، ديموقراطيا!!
وكل ذلك بينما الشعب يتابع انقساماته »الديموقراطية« الى طوائف ثم إلى مذاهب ثم إلى ما دون ذلك، فيتعذر إرسال موظف إلى حيث تسود الطوائف الأخرى، ويستحيل توحيد الجامعة الرسمية ولولا الفقر و»استقلالية« كل قرية بمدرستها الرسمية لأقفلت تلك المدارس التابعة لوزارة التربية الوطنية والتعليم العالي!
* * *
كأن اللبنانيين لم يعودوا يعرفون أن يعيشوا خارج دائرة الحرب!
.. مع التنويه أن حرب الاحتلال كانت مفروضة، بينما حرب المقاومة كانت بالإرادة الحرة.
وإن حرب كوفي أنان المستجدة مفروضة، وإن كان الرد عليها والمقاومة الشرسة لنتائجها، واجبا وطنيا مقدسا.
… وخصوصا أن السيد أنان قد ربح حربه الخاصة، ووفر له الدعم الأميركي والرضا الإسرائيلي ولاية جديدة على رأس الأمم المتحدة، وهو ما تعذّر تحقيقه على سلفه الذي لم يكن عظيم التباهي بعروبته، بطرس غالي.
وواضح أن غالي قد حافظ على الحد الأدنى من احترام الذات واحترام الانتماء الأصلي، في حين أن كوفي أنان لم يشأ أن يضيّع الفرصة التي لا تجيء إلا مرة واحدة.
ويبقى أن نتمنى أن يكون لبنان موحدا في الحرب الجديدة التي فُرضت عليه الآن، وألا يفضّل بعض الأطراف الذهاب في النكاية ضد السلطة إلى حد دعم المطلب الإسرائيلي في تحويل الأمم المتحدة إلى جهاز مخابرات جديد يعمل لخدمتها.. ضد العالم جميعا!

Exit mobile version