لن يحظى لبنان، المشغول بانتخاباته المصيرية بقانونها الستيني حتى الاختناق، بزيارة ولو قصيرة أو حتى بالتفاتة من شباك طائرة الرئيس الأميركي باراك أوباما، وهي تعبر أجواء المنطقة العربية في طريقه إلى محطته المذهّبة في الرياض، ولا حين يقصد بعدها إلى العاصمة العريقة المكتظة بسكانها ومشكلاتها السياسية والاجتماعية والاقتصادية، قاهرة المعز.
عنده من المعلومات عن لبنان الذي يشغل قبل انتخاباته «الكونية» وخلالها وبعدها، العواصم جميعاً، كبراها والصغرى، ما يكفي… فتقارير نائبه جوزف بايدن ووزيرة خارجيته هيلاري كلينتون تقدم لوحة كاملة، خصوصاً أنها معززة بمعلومات سفيره السابق الذي لم يشغله منصبه الجديد السامي عن «حبه الأول»، لبنان، فضلاً عن سفيرته التي لا تهدأ، ولا تترك شاردة أو واردة إلا وتنبّه إليها، ولا تهمل تفصيلاً قد يؤثر على الانتخابات التي قد تغيّر العالم إلا وتذكره أو تنبّه إليه.
ثم أن اللبنانيين، مثل سائر الأقوام في هذه المنطقة، ينتظرون أن يسمعوا جديداً من الرئيس الأميركي الذي أبلغهم أنه آت إليهم ليس فقط لكي يتحدث معهم وإليهم، بل أساساً ليتحدث إلى المسلمين في العالم عبرهم، وقد اختار القاهرة، واختارت له القيادة المصرية الجامعة العريقة فيها لتكون المنصة سامية المقام في قلب «المحروسة».
ولعل بعض العرب يخشى على طائرة الرئيس الأميركي من المناورات الشاملة التي تجريها إسرائيل مشركة فيها أسلحتها جميعاً، في البر والبحر والجو، وأجهزتها المدنية، مع تحسّب لإمكان توجيه ضربة ما إلى مفاعل ديمونا وخزينه من القنابل النووية..
لكن الرئيس الأميركي يعرف أن إسرائيل تعرف مكانتها عنده وعند إدارته وعند «النظام» بمؤسساته عموماً، فهو أكثر من حليف، وأكثر من شريك، إنه النموذج الأعظم والمثل الأعلى وصاحب المصلحة المباشرة في حماية هذا الكيان الذي استُبدل شعبه بطرده من أرضه لتقوم فوقها دولة اليهود.
.. ومن حسن حظ «العرب» أن الرئيس الأميركي لن يستطيع أن يتابع من عليائه «التفاصيل» الناجمة عن إقامة هذه الدولة: كمثل تقطيع أوصال فلسطين وتذويب أرضها بالمستعمرات الاستيطانية، ومطاردة أهل البلاد بالقتل والأسر، على مدار الساعة، والتضييق عليهم بحيث تتفجر الخلافات اشتباكات واعتقالات وحصاراً ومطاردات (لحسابها وبالتنسيق معها) تستحضر مناخ الحرب الأهلية..
… ومن حسن حظ الإسرائيليين أن الرئيس الأميركي لن يستطيع أن يرى من عليائه «غزة» المحروقة بالحرب الإسرائيلية، بركام مدارسها ومساجدها وبيوتها والمستشفيات ومخازن وكالة غوث اللاجئين.
بالمقابل فإن طائرة الرئيس الأميركي قد تتجنب المرور في أجواء العراق تحت الاحتلال، وبهذا تعفيه من أن يرى ـ ولو عن بُعد ـ نتائج سياسة الأرض المحروقة بالتدمير المنهجي لقلب بغداد وسائر المدن والبلدات والقرى، بحجة مكافحة «الإرهاب» وجماعة القاعدة..
كذلك فإن من المؤكد أن يتجنب طيارو الرئيس أن يعبروا به أجواء صومال الحرب الأهلية المفتوحة، أو أجواء السودان التي ما تكاد تتوقف فيه حركة انفصالية حتى تنشب حرب انفصالية جديدة.
.. وبالتالي فإن ركاب الطائرة الرقم واحد، وبينهم السيد الرئيس، لن يستطيعوا أن يروا الزوارق البدائية لقراصنة القرن الحادي والعشرين، الذين يتهددون كل سفينة تحاول العبور من خليج عدن إلى قناة السويس، مروراً بباب المندب..
ماذا يمكن للرئيس الأميركي أن يقدم إلى «عرب» أحوالهم كهذه: دولهم ليست دولاً، وبعض شعوبهم مشتبكة أو يجري تحريضها على الاشتباك في حروب أهلية يصعب توقع نهاية معروفة لها..
أما فلسطين التي كانت قضيتهم المقدسة ومساحة اجتماعهم ومركز تلاقيهم ليس من أجل استنقاذها، بل قبل ذلك وبعده من أجل استنقاذ كياناتهم المتهالكة، ومن أجل حماية الوحدة الداخلية لكل كيان عبر التوحد لمواجهة الخطر المصيري، وحتى لا تتمزق كياناتهم تحت ضغط العجز عن مواجهة القوة الإسرائيلية التي تفيض عن مجموع ما لديهم من جيوش وأسلحة ومقومات اقتصادية.
ثم أن حكّامهم ليسوا في حال تمكّنهم من أن يطلبوا منه الكثير، ولذلك فلسوف تقتصر مطالبهم على تأمين الحماية لهم، بداية من الداخل القابل للانفجار، ثم من بعضهم البعض، في ظل خصوماتهم التي لا تكف عن التوالد من ذاتها… والتي يمكن أن نرى بعض نماذجها بالعين المجردة في لبنان، قبل «حرب» الانتخابات بقانون الستين المؤسّس للحرب الأهلية الجديدة، وخلالها وبعدها!
فماذا يمكن لهؤلاء الحكّام أن يقدموا للضيف الأميركي الكبير الذي خص بلادهم بأكثر من 24 ساعة، يذهب بعضها في السفر، وبعضها في المجاملات وأصول الضيافة العربية الفريدة في بابها، وبعضها الأخير في خطاب التوجيه الذي سيحدد لهم الطريق إلى مستقبلهم؟!
وماذا يمكن لهذا الرئيس الأميركي الذي تفاءل «العرب» بلون بشرته وببعض نسبه، فقرّروا أنه المنقذ أن يقدم لهم مما يطمئنهم إلى سلامة أنظمتهم؟!…
وها هو يباشر منهج الإنقاذ بالتلويح لإسرائيل بسيف «الفيتو» في مجلس الأمن… ولعل هذا هو السبب في انخراط إسرائيل ببشرها وجيشها ومؤسساتها في أعظم مناورات في تاريخها، للرد على هذا التحدي المصيري الذي يكاد يعادل أسلحة الدمار الشامل.
هي زيارة تاريخية فعلاً، فلن يرى الرئيس الأميركي في أي مكان يذهب إليه، شرقاً وغرباً، حالة مزرية ومهينة لأهلها كالتي سوف يراها أو يسمع عنها خلال زيارة الساعات لهذه الأرض التي كانت مهد الرسالات السماوية ومنطلق الحضارة الإنسانية والتي صارت نهباً لكل قادر على أخذها، تقف على أبواب إسرائيل، وبعدها «الدول»، تستجدي أقل القليل من الحقوق التي ضيّعها حكامها، في حين يتطلع هؤلاء الحكام إلى دعم أقوى لوجودهم في سدة الحكم، ولا يهم أن تكون الذريعة إيران، أو الدولة العربية الأخرى، أو الطائفة الإسلامية الأخرى، أو «المؤامرة» التي يخطط لها «الأصوليون» بعنوان «القاعدة» وتفرعاتها، أو يخططها بعض أهل النظام لكي يوهموا «رعاياهم» أنهم هم المصلحون وهم الأمل بغدهم الموعود.
مع ذلك، علينا أن نسمع أوباما… فلعلنا نعرف منه بعض ما نحتاج أن نعرفه عن أحوالنا في الحاضر والمستقبل، مما لا يصارحنا به حكامنا الميامين!