في ربيع العام 1974 كان لبنان بلدا حائراً ومحيِّراً في آن معا. ففي الظاهر كان ازدهارا وبحبوحة وديموقراطية وسيادة وحرية، أما في الخفاء فكان عوزاً وتحكماً وتراجعاً وانفلاتاً من القيم والأعراف والمثاليات التي اشتهر بها طوال تاريخه وحتى في أيام الانتداب.
والى جانب قصوره الفخمة التي كانت ولا تزال تجسّد ثراء الطبقة الثرية التي كان الزعيم الراحل كمال جنبلاط يسميها طبقة »ال3$« استنادا إلى عددها الضئيل بالنسبة لسكان لبنان، كانت تقوم عشرات الألوف من بيوت التنك والقش التي يعيش فيها مليون أو أكثر ممن كان الإمام موسى الصدر يسميهم »المحرومين«. وبين هؤلاء وأولئك الطبقة المتوسطة الضائعة بين »حانا ومانا« في متاهات تشبه الأدغال.
عامئذٍ كان لبنان منطلقا بخطوات يحكمها التوتر والقلق نحو مستقبل لم يكن يخطر في بال أحد أنه سيكون مظلما وقاتما كما كان في ما بعد. إلا أن كثيرين كانوا يرونه كذلك كما كانوا يعتقدون أن الوطن سوف يكون بحاجة، وبحاجة ماسة جدا، إلى من يمسك بيده ويبعده عن المزالق البادية في الأفق، وكانوا متأكدين أيضا من أنه سيكون وكما هي الأوطان دائما بحاجة إلى أبنائه كل أبنائه خصوصا إلى القادرين منهم، والصحافيون في طليعتهم، على أن يكونوا فاعلين في الذود عن حياضه في كل ساحة من ساحات العطاء والبذل.
وفي تلك الأيام كان لبنان بلد الثورة الفلسطينية التي حطت رحالها على أرضه قبل خمس سنوات إثر أحداث الأردن، بل كان بلد معظم الثورات والحركات السياسية في العالم: بدءاً من الجزائر ووصولاً إلى بوليفيا… لم يعرف العالم بلدا قصده الثائرون ومعهم تجار الثورات وسماسرتها واتخذوا منها مقرا مستقرا مثل لبنان الذي كان في السبعينيات إحدى واحات الحرية الوارفة الظلال في الشرق الأوسط.
وكما كان لبنان بلد الأغنياء والفقراء وبلد التناقضات على اختلافها، كان كذلك بلد الذين لهم أصوات إذا خرجت من الأفواه همساً خلتها رعداً مدوياً، تقابلها أصوات إذا دوت بها حناجر أصحابها تكاد لا تسمع. وكم بدا أصحابها وكأن لا أصوات لهم على الإطلاق. ومما يؤسف له أن عدد هؤلاء كان كبيراً جداً في العام 1974. فمَن ينسى بل مَن باستطاعته أن ينسى أن لبنان يومئذ، وعلى رغم كثرة صحافته وكثرة منابره الوطنية والغريبة على السواء، كان يفتقر إلى منبر يأخذ على عاتقه أن يرفع صوت هؤلاء الناس المقهورين الذين تعمّد القادرون والضاربون في »مندل« السياسة الدولية والمشاركون في ما يسمى »لعبة الأمم« أن يقضموا حبالهم الصوتية ويمعنوا فيها تقطيعاً وأن يجعلوهم بالتالي بلا أصوات، وبلا حول أو قوة؟
في هذه الأجواء الداكنة وُلدت جريدة »السفير« التي شاءها مؤسِّسها طلال سلمان »صوتاً للذين لا صوت لهم«. وهو لم يخطئ بتلك التسمية الموفقة والمعبّرة التي أصبحت في ما بعد شعاراً ليس لجريدته فحسب بل لكل صحافي سواء أكان يعمل فيها أو في سواها، من الصحف اللبنانية والعربية.
ذلك أن الصحافي إذا لم يكن صوتاً لا يتوقف عن الدوي، وإذا لم يكن حدساً متأججاً وصارخاً، يفقد مصداقيته ورسوليته. وهو ما لم يقترب منه طلال سلمان مرة طوال حياته المهنية التي أوشكت على الاقتراب من نصف قرن.
أما في ربع القرن الماضي وتحديداً بين 26 آذار 1994 واليوم فقد صارت »السفير« ليس فقط جريدة الذين لا صوت لهم، بل كانت جريدة الباحثين عن المعرفة وعن الحقيقة في زمن عزّت فيه المعارف والحقائق. وقد نجحت في أن تكون كذلك من دون أن يصيبها وهن أو خور يحملانها على التراجع عن الهدف السامي الكبير الذي نذرت له نفسها، وسجلت في تحقيق هذا النذر نجاحا باهرا.
إلى طلال سلمان وإخوانه في »السفير« في يوبيلها الفضي تحية تقدير واحترام مقرونة بأمنية: أن تظل هذه الجريدة صوتا للحقيقة الناصعة، ومنبرا للكلمة المسموعة بل المدوية، وموطنا من مواطن الحرية في وطننا الغالي.
ملحم كرم
(*) نقيب المحررين في لبنان
السفير، 2731999