طلال سلمان

عن رجل ذي صار مصر نجيب محفوظ

تمتزج صورة نجيب محفوظ بمصر فيكاد يستحيل الفصل بينهما حتى بالموت. لكأنه هي، لكأنها هو، بشخصه وتقاليد حياته اليومية، بملامحه التي لا تستوقف إلا من عرفه أو تعرّف إليه من صوره، لأنه يشترك فيها مع الكثرة الكاثرة من المصريين، بظرفه الفطري، بتذوقه للطرفة والنادرة والنكتة، باحترافه السؤال ليعرف أكثر، ثم بذلك الاعتداد بمصريته التي لا يرى فيها تنافراً مع العروبة، ولا مع إيمانه بوحدة الإنسانية، ولا خاصة مع إسلامه الذي يراه مساحة مشتركة مع المؤمنين الآخرين، القبط بالتحديد، وحتى مع اليهود في الدين.
لذلك تصعب الكتابة عن نجيب محفوظ بالاستقلال عن مصر.. فهو قد عاش فيها ولها، لم يغادرها تقريباً، وظل يسعى إلى روحها حتى امتلأ بها فكتبها.
ومصر هي القاهرة، عنده كما عند أكثرية المصريين.. ولأن نجيب محفوظ قد كتب القاهرة فهو قد كتب كل المصريين، وكتب مجتمعه بطبقاته وأطيافه السياسية وتحولاته التي زلزلته على امتداد سبعين عاماً أو يزيد، فنقلته من حال إلى حال ومن طور إلى طور ومن موقع إلى موقع حتى بات صعباً على غير نجيب محفوظ أن يؤرخ للتحولات بالبشر ذاتهم: طموحاتهم وخيباتهم، انتفاضاتهم بالرفض أو استكانتهم بالعجز، تشوقهم إلى التغيير وانكسار الأحلام أمام قسوة موانع الداخل وحروب الخارج.
ولعل بين مزايا نجيب محفوظ الباهرة تلك النزاهة التي تعامل بها مع مجتمعه، فهو لم يحاول، مرة، تزيين العيوب، أو طمس العورات، أو القفز من فوق وجوه النقص. لقد كتب بروح مصر، فلم يجامل المصريين ولم يتستر على عيوبهم. كتبها مجتمعاً متكاملاً بأبطاله، المجهولين قبل المعروفين، بنجومه المبهورين بالضوء والعاديين من أبنائه الساعين وراء رزقهم والمثقلين بهمومهم، بالموظفين المقتول طموحهم بالروتين، والشبان الطامحين إلى التغيير بالثورة، فإن تعذرت أو طال الطريق إليها فبعمليات الاغتيال السياسي، إلى النصابين والمخاتلين وأبناء السبيل، والنساء بمختلف أصنافهن ما بين الأم القديسة والعانس والمومس والمتهورة بزواج النصيب، وصولاً إلى المجاذيب الذين يشكّلون بوابات سيدنا الحسين الذي هو دنيا الله كاملة، والادلاء في الأحياء المجاورة والمتفرعة من حوله والتي صارت أسماء لرواياته، والتي تراكم فوق بواباتها التاريخ، فحجب أسماء بُناتها وإن بقي الحرافيش الشهود عليها وعليهم يملأون الأفق بتلك النعمة التي لا تجدها بهذه الكثافة في غير مصر: الرضا، الذي لا ينتقص أبداً من اعتدادهم بأنهم أبناء وحفدة أولئك البنائين الذين ماتوا تحت أثقال الحجارة التي بنوا بها الأهرامات بالسخرة، أو تحت سياط الذين حفروا قناة السويس في أرضهم لتمكين الاستعمار من مصر… وهم قد حفروها بالسخرة، أيضاً، وللأجانب هذه المرة.
? ? ?
أسعدني حظي بلقاء نجيب محفوظ، أول مرة، يوم الخامس من حزيران .1968 كنت أعمل في مجلة الحوادث ، وقد طلبت أن أذهب إلى القاهرة لأكتب عنها بعد عام من الهزيمة.
قال لي الفنان الكبير الراحل بهجت عثمان: لقد استأذنت أن أصحبك إليه. تعرف، إنه يوم الخميس، وهو الموعد الأسبوعي للحرافيش. حظك طيب.. ستراه كما تحب أن تراه.
وذهبنا إلى منزل أحد المبدعين في الكتابة الساخرة، الراحل محمد عفيفي، وكان في منطقة الهرم، يقوم وسط حدائق التهمها العمران العشوائي في ما بعد. بعد التعارف، وبعض التشنيعات الطريفة التي تناوب على إطلاقها بهاجيجو وعفيفي، سألني نجيب محفوظ: كيف لبنان؟ وشرحت الصورة في بلدي، كما أراها، مراعياً الاختصار.. فاستزاد، وأفضت. وعلى غير توقع هبط عليّ سؤال (من خارج النص): هل ما زلتم تحبون مصر؟! أكدت بهزات من رأسي، وهممت بالكلام، فرشقني بالسؤال الثاني: وهل ما زلتم تؤمنون بجمال عبد الناصر؟. قلت بسرعة: أجل.. وها هو جيش مصر قد باشر حرب الاستنزاف.. لم تنته الحرب، أليس كذلك؟! هز رأسه، والتفت إليّ فلمحت عينيه من خلف الزجاج المعتم للنظارتين، قال بنبرة غضب: أكان ضرورياً أن نحارب فنهزم؟
? ? ?
صار من تقاليد زياراتي للقاهرة، أن أذهب بصحبة بهجت إلى الحرافيش كل خميس. وشدتني الصداقة، من بعد، إلى عدد منهم، أبرزهم من الأحياء المخرج السينمائي توفيق صالح.
وأذكر أنني في إحدى سهرات الحرافيش، وكان لبنان غارقاً في دمائه أيام الحرب الأهلية، أن نجيب محفوظ توجه إليّ بالسؤال: وما أخباركم في بيروت؟ كيف تستمر الحياة في هذه المدينة التي لا تقتلها حرب، ولا ينهيها اجتياح إسرائيلي؟! اشرح لي كيف تنتصرون على الموت..
بدأت كلامي محاولاً رسم خارطة سياسية، فتدخل ثروت أباظة مناقشاً فإذا بنجيب محفوظ يهب به صارخاً: يا أخي دع الرجل يشرح لنا ظروف هذا العالم الهائل الذي اسمه لبنان… بعد ذلك بلغه رأيك!
قلت مستفيداً من جو التعاطف: لو أنك تقبل دعوتي، برغم معرفتي بنفورك من السفر، لكن بيروت تستحق..
ارتسمت ابتسامة في عينيه، من خلف الزجاج المعتم للنظارتين، ثم قال: الصحة لا تسعفني، لكن بيروت تستحق.
? ? ?
ذات خميس، اقترح بهجت على نجيب محفوظ أن يمضي الحرافيش يوم غد الجمعة في القناطر الخيرية. وأعجب الأستاذ بالفكرة، فوافق… وانطلقنا مع الصباح إلى ذلك السد الذي بني أيام محمد علي للتحكّم بمياه النيل وتوزيعها على الدلتا. وهناك رأيت وجوهاً جديدة لنجيب محفوظ. كان في غاية الانشراح، خصوصاً وقد جاءه حرفوش بمنظار مقرّب، فطفق يتابع المتنزهين والمتنزهات، وكثرة بينهم عائلات، أما القلة فمغرمون اختلسوا بعض الوقت ليمضوه بعيداً عن العيون، وسط الماء والخضرة وغابات الصفصاف حامية الأسرار.
عقدنا حلقات نقاش تداخلت فيها الثقافة بالذكريات الشخصية بالهموم السياسية، وكان نجيب محفوظ مستمعاً في الغالب الأعم، يتدخل أحياناً بملاحظة، أو تحبك معه نكتة فيطلقها ويضحك لها أولاً… ثم همدنا فظل نجيب محفوظ على كرسيه يدور بنظره حيث لا نعرف، حتى انتبه بهجت فهمس لي بغيظ: كنا نفترض أننا نتفرج عليه، فإذا به كل الوقت يتفرج علينا!
? ? ?
في آخر لقاء، قال لي نجيب محفوظ: تعبت مصر، اتركوها ترتَح قليلاً ولا تتعجلوها. لا تخافوا على روحها. مصر لا تشيخ ولا تموت. لكنها متعبة. لا تنظروا إلى حكامها.. لطالما حمل ماء النيل إلى البحر أثقالاً. ألا تسمع كلمة الصبر ألف مرة في اليوم؟ مصر صبورة، لكنها تعود دائماً إلى ذاتها، وتستعيد دورها. ولكن ارحموها. مصر بحاجة إلى مصر، الآن، اتركوها لزمنها. بين مصر والزمن علاقة خاصة جداً، هي تفهمه، فلا تخافوا عليها.
وحين قمت مودعاً، سألني وقد أشرق وجهه بتلك الابتسامة التي تشعل السمرة:
أما زالت دعوتك لزيارة لبنان قائمة. احفظوا لبنان، إنه بلد هايل، هايل. إنه نقيض مصر، لذلك فالحب بينهما بلا حدود! احرصوا على لبنان، وأحبوه. لا يعيش وطن بلا حب أهله.
لقد كتب نجيب محفوظ مصر، مصر الأمس واليوم والغد.
كتب عن الوطنية ولكن دائماً مشفوعة بطلب الديموقراطية. وظلت ثورة 1919 تسكن كل كتاباته. وبرغم أنه تعايش مع نظام جمال عبد الناصر إلا أنه لم يعترف يوماً بهذا النظام كثورة، وإن أحب في عبد الناصر وطنيته وإيمانه بمصر. لم يكن يحب الضباط ، ولم يقبل الجيش كقائد سياسي ولا خاصة كبديل من الوفد.
ثم إنه بحق، وبالممارسة الدؤوبة، معلم جيل. فلقد شهدت بعض جلساته في العصارى، من أيام الخميس، في مقهى الجزيرة مع الأدباء الشبان وطلبة كليات الآداب.. يأتونه بنتاجهم فيأخذه ويسجل ملاحظاتهم، ثم يعود إليهم مناقشاً… أما في جلسات الثلاثاء فغالباً ما يناقش نتاج الآخرين، من الكتاب العرب، وأحياناً من أعمال الأدباء الأجانب، إذ يكلف البعض نفسه بأن يأتي للأستاذ بملخص عن بعض الأعمال الجديدة، ليكون موضوعاً للنقاش.
ولعل بين صفات الكاتب المصري تلك الحيوية الهائلة التي مكّنته من إنتاج كل الروائع التي أنتجها، ثم من ممارسة دور المثقِّف و الناقد الأدبي و المصحح و المحاور الذي لم يتعب من أدائه إلا بعد أن هدت محاولة الاغتيال حيله وفرضت عليه قيود الأمن.
أما بين كفاءاته المؤثرة فإنه لم يتصرف يوماً، مع نفسه ثم مع الغير، أنه قد أنجز أمراً خارقاً…
وعلى اعتزاز المصري العادي بنجيب محفوظ العالمي فهو لم يعرف من رواياته بقدر ما عرفه من تلك التي حوّلت إلى أفلام سينمائية، ولكنه سرعان ما أحله في منزلة الخالدين بعدما أتى لمصر بجائزة نوبل.
إنه، هنا أيضاً، كان كمن كتب مصر على لوحة الشرف العالمية، ولعل إحساسه بالزهو أنه وصل بمصر إلى هذه المرتبة… فهو يكون بمصر، ولا يكون من دونها.
حمى الله مصر.

Exit mobile version