لم يجد أي مواطن لبناني سوي في توصيف الرئيس السوري بشار الأسد لوجوه الخلل في «النظام» السياسي القائم في لبنان والتي تجعله ولاّدة للحروب الأهلية، ما يسيء إلى كرامة هذا الوطن الصغير و«شعوبه» العديدة.
ذلك أن هذا المواطن السوي يعيش في أجواء حرب أهلية مفتوحة منذ أربعين سنة أو يزيد، تبادلت خلالها «الطبقة السياسية» الأدوار غير مرة: مَن كان يرفض إصلاح «النظام» ويرى أن أي تعديل فيه قد يذهب بـ«الكيان»، ذهب إلى الحرب الأهلية دفاعاً عن وجوه الخلل والعيوب الظاهرة، بل العورات القاتلة… ومن كان يرفع شعار الإصلاح سرعان ما اعتبر أنه قد أنجز المطلوب فتم الاعتراف به وأُدخل إلى نادي الطبقة السياسية محدود العضوية، وبالتالي فقد وقف بسيفه ـ منذ تلك اللحظة ـ يدافع عن «النظام» ويسفّه من استمر على مطالبته بالإصلاح..
ذلك أن الأساس في المطالبة بالإصلاح السياسي قد اتصل دائماً بما اتفق على تسميته «حقوق الطوائف» في النظام الذي أنشئ أصلاً بمنطق طائفي، والذي يستحيل معه أن يصير لبنان وطناً لجميع مواطنيه، وأن تكون دولته جمهورية تعتمد ـ فعلاً ـ الديموقراطية البرلمانية صيغة للحكم.
الطريف أن المطالبات المتعددة المصادر، المتناقضة الأهداف، كانت تنطلق جميعاً من ادعاء الحرص على «النظام الديموقراطي» الذي يعرف الجميع أنه لم يكن ديموقراطياً في أي يوم، ولن يكون (بشهادة قانون الستين، الذي أعيد اعتماده، لاستيلاد الديموقراطية ـ برلمانياً ـ بعد خمسين عاماً من صدوره، ولمعالجة جزئية لمطالب طائفية، ودائماً من خارج أي تعديل جذري في بنية النظام..).
المطالب طوائف. والطوائف ومعها المذاهب حصص مقسمة (كوتا) عبر صراع مفتوح على المواقع والنفوذ… وبالتالي فإن النظام المعتل سيبقى مصدراً دائماً للتوتر والضيق والإحساس بالغبن، فإذا ما أنصفت «طائفة» شعرت «طائفة» أخرى بالغبن. وهكذا فقد كتب على اللبنانيين أن يُبقوا أياديهم على قلوبهم متوقعين تفجّر «الصيغة» كلما اشتدت المطالبة بإصلاح النظام.
مؤتمرات عدة للمصالحة الوطنية على قاعدة إصلاح وجوه الخلل وتأمين العدالة في توزيع المناصب والصلاحيات، وكلها جاءت في أعقاب انفجار النظام بعجزه عن مواجهة احتياجات «رعاياه» الذين نادراً ما لفهم الشعور المشترك بأنهم مواطنون متساوون في الحقوق والواجبات. وكل مؤتمر كان يمهد ـ بالضرورة ـ لمؤتمر آخر، مع استمرار جولات الحروب الأهلية، التي كانت تستدعي تدخل الخارج في الداخل.
ولأن الداخل دواخل فمن الطبيعي أن يكون الخارج دولاً عدة، بعضها يُستدعى بوصفه حامياً لحقوق بعض الطوائف فيستدرج دولاً أخرى لحماية مطالب التغيير المشروعة لدى طوائف أخرى… وعلى امتداد دهور الحرب الأهلية جاءت دول عديدة إلى لبنان، بعضها بالطلب، وبعضها من ضمن هجوم مضاد لاستنقاذ مصالحها عبر إسباغ حمايتها على طوائف أخرى، أو تثبيت «الحقوق المشروعة» المكتسبة بالتقادم لهذه الطائفة أو تلك.
حتى العدو الإسرائيلي وجد لنفسه مكاناً في صراع الطوائف على السلطة، خصوصاً أن «النظام» لا يقيم اعتباراً للوطنية، وأهل النظام لم يُعرفوا ـ في الغالب الأعم ـ «بالتطرف»، فهم يهتمون بالحفاظ على مصالحهم، والذي يرعاهم فيحفظها فأهلاً به و«غداً إذا ما حاول فرض هيمنته علينا استدعينا أطرافاً أخرى لإخراجه»!
ذلك أن أهل النظام الذين يشكلون «طبقة سياسية» متكاملة الأدوار، يفترضون أنهم الأذكى والأعظم دهاء في العالم، وبالتالي فهم يرون في أنفسهم القدرة على استخدام «الآخرين»، ولو كانوا دولاً عظمى، ثم «يصرفونها» من الخدمة متى تحققت أغراضهم..
وكثيراً ما كلف هذا الذكاء الفوار أصحابه حياتهم، وتسبّب في جر أهل البلاد إلى مزيد من الحروب الأهلية.
[ [ [
إن اللبنانيين يعيشون قلقاً مفتوحاً على يومهم، ويحاولون التخفيف منه على غدهم حتى لا يخسروا أبناءهم الذين ما إن يبلغوا سن المراهقة حتى يبدأ بحثهم عن وطن بديل يقبلهم فيوفر لهم فرصة الحياة بهدوء، بغض النظر عن كفاءاتهم والشهادات التي يحملون.
إن نسبة كبرى من النساء اللبنانيات ترفض أن تحمل قبل الاطمئنان إلى حصولها على تأشيرة سفر إلى دولة غربية، يفضل أن تكون الولايات المتحدة الأميركية أو كندا. فإذا ما تعذر، ففرنسا، كي يولد طفلها بجنسية أخرى «محترمة» توفر له أن يعيش حياته، ولو كبواب على باب فندق شهير!
وليس سراً أن العديد من كبار المسؤولين في لبنان، بينهم رؤساء ووزراء ونواب ومديرون عامون، فضلاً عن الكثير الكثير من رجال المصارف والأعمال، يحملون أكثر من جواز سفر أجنبي، أما جواز سفرهم اللبناني فيبقى في حقائبهم، لعله يستدر العطف في بعض الحالات، أو المكسب حين يصبح إظهار «التمسك بالوطن» طريقاً ممهداً إلى السلطة!
[ [ [
إن التسوية شرط حياة لهذا النظام الفريد في لبنان.
والتسوية هدنة قد تطول سنوات، لكنها ليست حلاً حقيقياً لأزمات النظام النافي لوطنيته..
والتسوية هي حكماً نوع من أنواع التدويل، إذ تتوزع «الدول» الحمايات، فيكون لكل طائفة دولة ترعى حقها في النظام..
لذلك صمد النظام لكل الحروب الأهلية والفتن التي بدلت في خريطة التركيبة السكانية وأنقصت أعداد المقيمين في ديارهم داخل الوطن بنسبة تصل إلى عشرين في المئة (بين قتيل وجريح ومهاجر ومهجّر لن يعود إلى مسقط رأس آبائه وأجداده..)..
النظام المصفح «بالدول» أقوى من الشعب المنقسم على ذاته والمقسم على «الدول» حامية النظام.
آخر مشهد «تاريخي»، قريب إلى الذاكرة، يتمثل في احتشاد «الدول» في المجلس النيابي اللبناني لتشهد على التسوية الجديدة التي كان عنوانها انتخابا عالميا لرئيس جمهورية لواحدة من أصغر الجمهوريات في الكون..
… وما كان تحقُّق ذلك المشهد التاريخي ممكناً إلا بعد تسوية دولية أخرى تمت في مؤتمر الدوحة لأطراف الصراع على السلطة من أهل النظام اللبناني، لإقرار بعض التعديلات التي جعلت الحل ممكناً، وشكلت لنا حكومات المرحلة المقبلة من عمر هذا النظام الفريد الذي يزداد قوة كلما تسببت حرب أهلية جديدة في إضعاف وحدة شعبه وفي شطب قدرته على التغيير الذي يطمح إليه من أجل أن يصير «مواطنين في جمهورية» وليس رعية لطائفة تقودها طبقة سياسية فاسدة ومفسدة لا يمكنها أن تعيش وتتنعم بالحكم إلا في ظل مناخ قابل للاشتعال في الفترة الفاصلة بين حرب أهلية وأخرى.
مع ذلك سيبقى اللبنانيون يناضلون من أجل أن تتحول بلادهم من «محمية أجنبية» مهددة بالحرب الأهلية دائماً، إلى وطن صغير يكبر بأهله إذا ما تيسّر لهم أن يصيروا مواطنين.. لا رعايا!