تتزاحم مواكب موفدي الدول ، شرقها وغربها، كبراها وصغراها وصولاً إلى قبرص المشطورة نصفين، في شوارع بيروت الضيقة، يستوي في ذلك الآتي لتبليغ رسالة، أو القادم للاستطلاع والتثبت من دقة معلوماته الأصلية عن… البركان الموشك على الانفجار في هذه الأرض!
وشوارع بيروت تكاد تصبح، على ضيقها، دولاً ، لكل شارع علمه و حرس سيادته و مكتبه الإعلامي الفصيح، ثم إن لكل دولة في المدينة حليفاً أو حلفاء يتوزعون على الهضاب الخضراء المحيطة ببيروت والمشرفة عليها… ولا بد بالتالي من استكمال الملف بالاستماع إلى من هم فوق، وغالباً ما يكون الصوت فوق أعلى والنبرة أحدّ، وهكذا يكون التكامل بين الحلفاء!
المحطة الإجبارية دائماً في بكركي التي أُعطي مجد لبنان لبطريركها الذي لا يتعب من الاستماع إلى ما يعرفه من المواقف والآراء، فإذا ما تعب ابتسم وأطلق نكتة كسروانية توجع أكثر مما تُضحك، وعاد يكرز مواعظه على من يفرض عليه واجبه أن يعتبرهم مؤمنين حتى لو كان يداخله الشك في إيمانهم، ثم يختلي بنفسه ليكتب في دفاتره ما لا يقال علناً، ساخراً ممّن يحيل الأمر إليه، خصوصاً أنه يعرف أن ذاك يعرف أنه يعرف، وأن اللعبة مكشوفة، لكن الله أوصى بالستر!
موفدو الدول يرطنون، أساساً بالإنكليزية، وإن كان العهد الجديد في فرنسا قد أعاد الاعتبار إلى الفرنسية … لكن أصحاب الدول في لبنان يفهمون اللغات جميعاً، ثم إنهم يعرفون الغاية من الزيارة سلفاً، لذلك فهم يكرّرون مواقفهم كأنها قصائد الاستظهار، عن ظهر قلب..
قليل من العرب بين موفدي الدول … وأغلب القليل يجيء بموقف مسبق، ويكون همّه التثبت من أن ما قرّره، من قبل أن يأتي، هو الصح، لكنه يعود وقد ملأه شعور براحة الضمير: لقد بلّغت… اللهم فاشهد!
لا يجيء أي من موفدي الدول من الحياد، ولا وقت لديه، ثم إنه غير معني بأن يحاكم السياسات المتبعة ومواقف الأطراف المختلفين. هو آت ليسمع، صحيح، لكن موقفه هو موقفه المعلن من قبل أن يجيء.
ولأن الدولة في لبنان قد انهارت، فعلاً، فقد تحولت كل طائفة إلى دولة .. وثمة تحالفات دولية معلنة بين طوائف دول في لبنان مقابل تحالفات دولية أخرى للطوائف الدول الأخرى.
ومؤخراً، لم يعد موفدو الدول يتورعون عن الحديث عن حقوق الطوائف… وما محاولة إحراج البطريرك صفير بأن يسمي المرشحين الذين يراهم توافقيين إلا تأكيد على أن الدول قد سلّمت بالدول اللبنانية، تاركة لكل طائفة دولة أن تسمي رئاساتها والوزراء والمديرين… إلخ.
وحده الأميركي لا يسأل. إن عنده الأجوبة فلماذا يسأل. إنه يبلغ التوجيهات فحسب. يرفض أن يستمع إلى من يعارضه. لا وقت لديه للجدل. هو صاحب الأمر: هو مصدر الشرعية. يقرّر أن يمنح الشرعية لحكومة بتراء فتكون شرعية. يمنعها عن رئيس للجمهورية ما زالت له أيام في قصر بعبدا فتمنع عنه، ثم يضيف فيوجّه إليه إنذاراً صارماً لا يمكن قبوله عند أية قبيلة أفريقية شاردة في الصحراء ولم تتعرّف إلى معنى الدولة بعد.
وحده الأميركي يقرّر للطوائف شرعية دولها أو يسحب الاعتراف منها، فإذا هي خارجة على القانون: تجمّد أرصدة غير المرضي عنه من قادتها ويُحرمون من السمة التي تُدخل حاملها الجنة الأميركية.
والسمة (الفيزا) هي هي التي تفتح أبواب جنة الرئاسة في الدول اللبنانية أو بعضها على الأقل.
[ [ [
للسيد حسن نصر الله تجربته المريرة مع الدول وتأثيرها على الشؤون السياسية في لبنان، داخل الدولة ، والحكومة أساساً، وخارجها..
إن جراح الحرب الإسرائيلية في تموز من العام الماضي لما تشفَ..
وهو يعرف أن تلك الحرب كانت أميركية بزمانها وبحجمها وبكثافة نيران القتل والتهديم فيها..
ولأنه يعرف بصدق الشهادة أن الإدارة الأميركية كانت في موقع صاحب القرار بشن تلك الحرب، فلا يمكنه أن يتعامل مع موفديها، أو الموفدين بالنيابة عنها، على أنهم حمائم سلام جاءوا إلى لبنان ببشرى المساعدة على بناء غده الأفضل… خصوصاً أن بعض مسؤوليهم ما زالوا يلحون علناً على أهل الموالاة بالاندفاع إلى انتخاب رئيس بالنصف زائداً واحداً، مع تطمينهم إلى أن الأمر سيمر بيسر.
وهو يعرف أن هذه الإدارة تنسج حلفاً يستهدف عبر الرئاسة الجديدة المقاومة بوجودها ذاته، وليس بسلاحها فحسب… خصوصاً أن بعض من جاء وسيطاً كان له دور مباشر في صياغة القرار 1559 الذي كان بمثابة إعلان حرب (دولية) على المقاومة في لبنان.
فكيف تراه سيطمئن إلى من يحرّض على انتخاب رئيس أولى مهماته، مبدئياً، تنفيذ القرار 1559؟!
لذلك فهو قد رفع صوته ليقول: أنا هنا! لست مجرد فصيل عسكري احترف الحرب! المقاومة هي أقوى قوة شعبية في البلاد… فكيف تتحدثون عن تسوية، ورئيس وفاقي، وأنتم تطلبون رأسي؟!
إنه يرى الرئيس بالنصف استئنافاً للحرب الإسرائيلية.. لذلك فقد تبدى، أمس، بلباس الحرب. لكن القراءة الثانية لخطابه تدل على أنه دعوة حارة وملحة إلى التوافق، حتى لا تُفرض علينا حرب في الداخل لإنجاز ما قصّرت عنه الحرب الإسرائيلية.
[ [ [
الدول كثيرة فوق مساحة لبنان الضيقة..
وبحكم الخبرة وتراكم التجارب فعندما تتزاحم الدول في لبنان فإن ذلك يكون نذير سوء بقرب تفجير الحرب الأهلية، تأميناً لإسرائيل، وإشغالاً لمن تبقى من العرب بلبنان وطوائفه الكثيرة، وإشغالاً للبنانيين ببعضهم بعضاً… وتهديداً بالنار غير المقدسة لمن جاورهم.
بات الوقت ضيقاً.. إلا على التوافق!
وبالتأكيد فإن من سيمنع التوافق هو الذي سيتحمّل، أمام الله والناس، مسؤولية تفجير الوضع المتوتر والذي تتناقص ضوابطه يوماً بعد يوم.
و الدول لا تصنع لنا التوافق مجاناً..
لكننا نستطيع أن نصنعه اليوم حتى لا يضيع مستقبلنا.
وما زال الأمل قائماً في اجتراح المعجزة… أفليس اللبنانيون هم صنّاع المعجزات في كل زمان ومكان؟!