هي شجاعة من السودان، ومن موقعه الآن في رئاسة القمة العربية، ان يتصدى لمهمة دقيقة جداً هي التوغل في دغل العلاقات اللبنانية السورية، وزاده لا يتعدى مشاعر الأخوة تجاه الشقيقين اللذين يأخذهما الخصام إلى الجفوة فالقطيعة، فالتحرشات شبه العسكرية!!
ثم إن السودان محصن بالبراءة من المصلحة المباشرة، فهو بعيد بما يكفي حتى لا يتهم بالغرض ومن ثم الانحياز… وربما لهذا تقدم بعدما تراجع المبادرون الآخرون، إما لأن المعنيين في لبنان تمردوا عليهم فتجرأوا على الكذب والإنكار (كما حصل مع المبادرة السعودية).. وإما لأن هؤلاء المعنيين يفضلون ان يكون الحديث عن الاستقلال باللغة الإنكليزية، ومن واشنطن (أو نيويورك) لأنهم يفترضون ان تلك أقصر الطرق إلى دمشق.
وهكذا فقد جاء الموفد الرئاسي السوداني عثمان مصطفى اسماعيل إلى بيروت، مرة ثانية، وجال أمس وسيجول اليوم على الاقطاب رسميين وفوق رسميين، وسلاحه منطق المصالح المشتركة ودماثته وظرفه. وقد جعلته هذه الكفاءات موضع الترحيب في مختلف وساطاته المستحيلة، لا سيما ان بلاده تبحث فلا تجد وسيطاً نزيهاً ومقبولاً لأزماتها المتلاحقة التي تستولدها الإدارة الأميركية وآخرها دارفور التي طبقت شهرتها الآفاق.
المهم ان الموفد السوداني، البريء من الغرض، والذي لا يملك غير إرادة الخير، قد جاء من دمشق بمناخ مؤاتٍ يسمح له بأن يباشر مهمته التي تتأكد ضرورتها بصعوبتها.
فالنظام السوري الذي يعترف بأن إدارته للشأن اللبناني قد ارتكبت أخطاءً جسيمة، يريد ان يطمئن بعد الحملات الضارية على الشعب والجيش والحكم في سوريا إلى ان أبطال السيادة والاستقلال في لبنان لن يطعنوه غداً من الخلف كما اليوم، ولن يعينوا عليه الأجنبي الذي لم يعد بعيداً بل هو احتلال عسكري ومذابح قابلة للتحول إلى فتنة كبرى وإلى حرب أهلية لا تبقي ولا تذر في العراق، ليس أسهل على الاحتلال الأميركي توسيعها إلى ما يجاور أرض الرافدين وما يماثل مكونات شعبها الجريح.
الموفد السوداني يعتبر ان تجربة الحوار الوطني ناجحة بكل المعايير، وهي قد أنجزت الكثير، ويجب الانطلاق مما قررته في أمر العلاقات اللبنانية السورية، أي جوهرها وليس عوارض الاعتلال والثغرات… فليس معقولاً ان يبدأ ترميم الانهيار في العلاقات بطرح ترسيم الحدود انطلاقاً من مزارع شبعا، ثم الإلحاح على التبادل الدبلوماسي. ان ذلك كمن يضع العربة قبل الحصان، إذا حسنت النية، أو كمن يريد نسف محاولات التهدئة واستعادة مناخ الأخوة والمصالح المشتركة بفرض شروط يقصد منها الإذلال وتثبيت الانتصار على جار كبير لا يستطيع تقبل مثل هذه الهزيمة ، بينما المنتصر لا يقوى على حماية انتصاره الموهوم.
الموفد الرئاسي الآتي من السودان، كان شاهداً على ما جرى في باحة القمة العربية في الخرطوم وما ترتب عليه من نتائج سياسية، داخل لبنان ثم خارجه… وبالتالي فهو يستطيع ان يتحدث بصراحة مطلقة مع من ارتكب الخطأ، وأن يقترح المخارج على من افتعل الأزمة وهو يفترض انه يفتح طريق الحل عبر واشنطن ونيويورك.
(للمناسبة: لا يملك أحد القدرة على فهم واقعة بسيطة تتمثل في إقدام مجموعة من رموز الاستقلال والحرية والسيادة وترسيم شبعا، بينهم نواب يمثلون الشعب، على السفر إلى نيويورك للمشاركة في تكريم المندوب الأميركي في مجلس الأمن، جون بولتون الذي يكاد يتفوق بنزعته الصهيونية على أرييل شارون… ومن حق اللبنانيين، لا سيما أولئك الذين أعطوا هؤلاء النواب أصواتهم أن يفهموا سبب هذا الاعجاب المطلق الذي دفع ممثليهم إلى الذهاب حتى نيويورك لتكريم هذا الموظف الذي يعاني المشكلات مع إدارته لأسباب عدة بينها مبالغته في التعبير عن صهيونيته).
المهم ألا نجد من يبادر في لبنان إلى رفض المبادرة العربية الجديدة، باعتبار ان من يتجرأ على الكبير الغني يستطيع ان يتطاول على الفقير الذي لا يملك ان يهدد فإذا هدد أوجع!
والمهم ان ترميم العلاقات مع سوريا مهمة وطنية بقدر ما هو شأن عربي، وانه مصلحة لبنانية قبل ان تكون مصلحة عربية… ولو تحت الرعاية الأميركية.