ما زال وجهي يحمل الشهادة بأنني قد نجوت من الموت بالمصادفة، وان من حاول اغتيالي، ومن معي، بعد منتصف ليل الرابع عشر من تموز/يوليو 1984، امام باب منزلي، قرب فندق البريستول في منطقة رأس بيروت، قد انصرف من مسرح الجريمة ليبلغ من ارسله بأن المهمة قد تم تنفيذها بنجاح وان المكافأة حق مستحق… وفوراً.
بل أنني، شخصياً، امضيت دقيقتين او ثلاثاً احاول التحقق من انني ما زلت حياً، برغم نهر الدم المتدفق من جبيني ومن وجهي وكذلك من صدر مرافقي وسائقي فؤاد اللبان الذي قبض على جراحه بيديه وهو يصعد الدرج ليبلغ عائلتي بما جرى، ومحاولة طلب النجدة من اية جهة للوصول إلى المستشفى قبل أن نفقد الكثير من الدم ما لا يعوض.
كانت معانقة الموت لحظة مذهلة. التثبت من أنك ما زلت حياً مصدر ينبوع من الفرح رافقني إلى المستشفى وانتظر معي وصول الاطباء والممرضين الذين اضطررنا أن نوفد من يأتي بهم من بيوتهم.
أعترف أن تلك التفاصيل ما تزال تحتل مكاناً بارزاً في ذاكرتي، وان النجاة ومواصلة الحياة بعد ذلك مزين الخدين بأوسمة الشجاعة قد طبعت سلوكي بعد النجاة، وانها قد اعطت البعد الكامل لكلمات مثل الموت والحياة واللهفة والحب والشوق والعاطفة وصوت الاحبة وملامحهم.. لا سيما بعد الانتصار على الخوف وعلى الجراح واخراج بقايا الرصاص من الوجه الذي فقد حيويته لفترة ولم يفقد يقظته.
عادت هذه المشاهد تغمر عينيّ، مستعيدة الكثير من الوجع وأنا اتابع تفاصيل جريمة الاغتيال البشعة التي قتلت الفجر في جنوب الثورة والمقاومة وشهدائها قبل أن تقتل لقمان سليم قبيل الفجر على طريق قرية العدوسية في الجنوب، وتترك جثته في قلب الصمت والدم وعلامات الاستفهام التي ترافق رحلته الأخيرة.
اختلطت وقائع الشريط الدموي لمحاولة الاغتيال الباقية آثارها في الوجدان والذاكرة وعلى الوجه والجبين والقلب طبعاً، وانا اقرأ التفاصيل القاسية لاغتيال مثقف احترمه برغم الاختلاف الفكري والسياسي العميق مع الراحل لقمان محسن سليم.
ولقمان سليم الذي عُرِفَ باختلافه مع اكثرية المثقفين والمعنيين بالسياسة، لكنه كان شجاعاً فلم يغلبه وقوفه مع اقلية تقول قوله وتعارض التيار العريض للرأي العام بأحزابه وتنظيماته السرية والعلنية، المقاتلة بالكلمة او حتى بالسلاح.
التقيت لقمان سليم وشقيقته الذكية ولطيفة الحضور رشا الامير، مرات عديدة، مصادفة او عبر لقاءات ثقافية – فكرية، او في مناسبات تتصل بتوقيع اصدقاء كتبهم الجديدة، او الردود عليهم بكتب مختلفة لكتاب يؤمنون بالرأي الآخر وعندهم رؤاهم ومنطقهم المضاد.
كان واضحاً اننا لن نتفق مهما تجادلنا، خصوصاً وان لقمان ساخر الاسلوب ويمكنه أن يتظاهر بالغضب قبل أن يغضب فعلاً، ثم انه مجادل من طراز خاص بصوته العريض ونبرته الساخرة والنجدة السريعة المهدئة للغضب التي يمكن أن تأتيه في أية لحظة من شقيقته التي يخجلك تهذيبها قبل حجتها.
***
تعددت لقاءات المصادفة، وهي غالباً هامشية من دون أن نقصد أن نكون اصدقاء، وكذلك من دون أن نقرر أن نكون أخصاماً.. ولعل رقة الشقيقة وابتسامتها واصرارها على عدم الافتراق مختلفين قد ساعدت في حماية هذه العلاقة الخاصة.
أتذكر انني حاولت، مرة، استعادة وقائع لقاء قديم مع والد لقمان، المحامي المعروف بل الشهير محسن سليم.
وكان “أهل المجالس” كلما تلاقوا على موعد، او في اعقاب موعد عمل، استعادوا بعض اللطائف والطرائف، وعن كبار المحامين تحديداً، خصوصاً وان بعضهم قد جمعت نوادره في كتب، وبعض آخر صارت سيرته ونوادره مع القضاة في المحاكم حكايا جلسات المباسطة والسهرات الحميمة، (اميل لحود المحامي طبعاً، بهيج تقي الدين ونصري معلوف الخ..)
كان صعباً أن نصير صديقين، ولكن الطابع الثقافي للقاءات والمحاورات يخفف من الحدة ويحصر الحديث بالمجاملات العامة والحديث عن آخر الكتب التي فيها جديد، وعن الكتًاب الشبان.
***
إن القليل من التفاصيل التي عُرِفَت فأُعلِنَت عن هذه الجريمة البشعة التي ارتكبت عن سابق تصور وتصميم، لا تقدم تفسيراً لما حدث ولا منطلقاً لأي استنتاج.. فالجريمة أخطر وافظع من أن تكون نتيجة فورة غضب. نعرف الضحية ولا نعرف الجاني، ونجهل كل شيء عن هذه الرحلة الغامضة التي انتهت بمقتل لقمان سليم.
إن الضحية شخصية معروفة، وله مواقفه المعروفة، وربما تصادم او تخاصم مع كثير من اهل الفكر او العقائد او الآراء..
لكن مثل هذه الخلافات لا تنتهي بالقتل المخطط له بعناية والمختارة ادواته وحيثياته وموقعه وتوقيته وهدفه.. ولا شك أن التحقيق يركز على ما سبق الجريمة وما رافقها ولا سيما الفترة الفاصلة بين وقوعها (وموقعها بطبيعة الحال) وبين الكشف عنها وكيف، ومن كشفها، واي طريق سلك الضحية في الذهاب ثم في الاياب، ثم لماذا عثر عليه في تلك البقعة بالذات، وهل لها اية دلالة، وهل ترتبط بأي واقعة وغير ذلك من التفاصيل المتصلة بهاتفه الخلوي المرمي قريباً من مكان سهرته ورفاقه، عدا عن السيارة وإفتقادها إلى نظام التتبع، ولعل السؤال الأهم من هو صاحب المصلحة والمستفيد من هذه الجريمة؟
***
كل شيء عما قبل الجريمة معروف:
مواقف لقمان سليم معروفة، صراعاته وخلافه الفكري والسياسي مع اطراف كثيرة ومؤثرة في لبنان معروفة وهي لم تتسبب في التاريخ الطويل لهذا الخلاف في القتل.. واذا ما كان الخلاف فكرياً أو سياسياً، فلماذا التلطي ومحاولة طمس الوقائع، والمواقف عموماً معروفة، ومعلنة..
لكن تلك الخلافات لم تتحول إلى مضبطة اتهام.
ولعل معظم الجلسات الموسعة نسبياً قد شهدت على تميز مواقف سليم عن مواقف الآخرين، وحرص الجميع على حصر النقاش بالقضايا الفكرية والسياسية. وابسط الادلة على أن تلك الخلافات لا تقتل أن لقمان سليم قد عاش ومعه شقيقته رشا سنين طويلة يلتقيان الآخرين “المختلفين” من دون أن يشجر بينهم الخلاف، او اذا ما بانت طلائعه فان الجميع يفضل ارجاء النقاش فيه إلى وقت آخر، وفي مكان آخر يستحسن أن يكون في جو مهيأ لمثل هذا النوع من النقاش الفكري.
***
لقد خسر لبنان والحركة الفكرية والثقافية فيه تحديداً، مع تغييب هذا الفكر المجتهد، حتى وان اعتبر البعض اجتهاده كفرا، بعض الرصيد الذي كان للبنانيين من تقبل الآخر والرغبة في سماع رأيه ومناقشته فيه، ومحاولة ايصال الرأي الآخر لمن كان يرفضه.
ولا شك أن لقمان سليم الشهيد اقوى وابقى الف مرة من لقمان سليم المفكر، المجادل، المحاور، مهما تعصب لرأيه، فالبلاد مفتوحة وحركة الافكار والسجال في ما بينها والنقاش مهما احتدم لا يغير من الطبائع والافكار..
ففي المنازلات جميعاً، كان لقمان يودع محاوره حتى الباب او يرافقه حتى سيارته.. قبل أن يتفقا على لقاء جديد لاستئناف الحوار او استكماله.. ولو غضب بعض المتزمتين ضيقي الافق والصدر، والذين يدفعون الحوار او النقاش باتجاه العراك.. ليثبتوا قوة زنودهم بدلاً من قدرة عقولهم على التحليل والاستنتاج وكسب المحاور بدلاً من تهشيله او تسفيه منطقه او “تطفيشه”.. حتى يتم لهم النصر على حساب الحقيقة وحرية الرأي.