طلال سلمان

عن لبنانيا

ليست مبالغة أن يتم التأريخ بالخامس من حزيران لمرحلة التفجّر في أزمة النظام اللبناني المفتوحة دائماً، وإن تعدّدت وجوهها وتبدّل <أبطالها> وتغيّرت موازين القوة بين أطرافها المحليين تبعاً لما يطرأ على خريطة التوازنات العربية والدولية من تعديلات أو تبدّلات.فالنظام اللبناني الذي استولدت عيوبه التكوينية قوى معارضته كان يرتكز في استقراره إلى توافق الأنظمة العربية وبالذات في <دول جواره>، الأقوى فالأقوى، على الحفاظ على لبنان، كدولة، بحماية وحدته الوطنية وعدم تعريضها لاجتياحات الحالات الانقلابية أو الثورية التي استولدتها، أساساً، الهزيمة العربية في فلسطين التي تمّ تمييزها، منذ البداية، ربما لخطورتها البالغة وآثارها الارتدادية المدمّرة على مجمل الأنظمة القائمة، ومن هنا أطلق عليها <النكبة>.وبين 1943 و1967 كان هذا النظام اللبناني قد تعرّض لانتكاسات عدة، أولها مع الرئيس الاستقلالي الأول الذي دفع تنحيه عن موقعه الممتاز بسبب ارتكابه خطأ تجديد ولايته من دون أن يأخذ في الاعتبار أن <النكبة> قد أسقطت العهد الاستقلالي في سوريا بالانقلاب العسكري الذي استولد ذاته مرات عدة، كما أسقطت العرش في مصر وأنهت الملكية، وقد كانت راسخة وعميقة الجذور، لا سيما بالمقارنة مع سائر الأنظمة العربية الهشة في كيانات مستولدة حديثاً من خارج التاريخ وعلى حساب الجغرافيا وبغير اعتبار لإرادة أهلها الذين كانوا يفترضون أنهم يسيرون في اتجاه أحلامهم الوحدوية فاستفاقوا على كابوس التقسيم والتشطير وتفصيل الكيانات بما يخدم مصالح القوى التي استعمرتهم.أما الانتكاسة الثانية فقد جاءت مع الرئيس الثاني الذي أراد هو الآخر تجديد ولايته فاصطدم بقوى الاعتراض المحلية، معززة بالقوة العربية الثورية التي كانت قد أنجزت حلم إقامة دولة الوحدة (بين مصر وسوريا) بقيادة جمال عبد الناصر، متحدية المصالح الأجنبية ودولها العاتية التي لم تتردد في التدخل العسكري المباشر في لبنان عندما أسقطت ثورة الجيش في العراق العهد الملكي المستنسخ من الأحلام الهاشمية.مع استقرار التوازنات في المنطقة المحيطة، التي كان قطبها العربي مصر جمال عبد الناصر، عاش لبنان حوالى عشر سنوات من الهدوء والازدهار الاقتصادي، وإن كانت الاعتراضات قد استمرت والمطالبة بتعديل في قواعد لعبة الحكم قد تواصلت ولكن مضبوطة بسقف <الاستقرار الإقليمي> المستند إلى توازن دولي بين المعسكرين الأقوى: الغرب بالقيادة الأميركية، و<الشرق> بالقيادة السوفياتية.بعد 5 حزيران 1967 تبدّلت قواعد اللعبة جميعاً: نشأت حركة المقاومة الفلسطينية، التي سرعان ما باتت قوة يحسب لها حساب، إذ إن شعارها <التحرير> كان يحرج الأنظمة بقدر ما يستقطب لها الجماهير العربية، خصوصاً أن الشعب الفلسطيني نفسه كان قد بات بأكثريته من <اللاجئين> في مخيمات مزرية تمّ توزيعها على <دول الجوار الفلسطيني>، ممّا حوّل <الثورة> إلى مطلب للأمة جميعاً.ومنذ 1968 صار <الفلسطيني> لاعباً سياسياً مؤثراً في لبنان، خصوصاً أن القوى الشعبية التي احتضنته قد استمدت من <قضيته> العادلة، كما من حركته الثورية، زخماً يساعدها على تحويل اعتراضاتها على النظام السياسي في لبنان إلى مشروع حركة تغيير لها برنامجها السياسي الطامح إلى إحداث <انقلاب> على التوازن الدقيق القائم، والذي يحمل الاندفاع فيه مخاطر تفجير الفتنة الطائفية.في خريف 1969 أنجز <اتفاق القاهرة> برعاية جمال عبد الناصر، كمحاولة لتنظيم العلاقة التي يصعب ضبطها بالتوافق بين النظام السياسي الذي باتت عيوبه فاضحة وبين المقاومة الفلسطينية التي لا يضيرها أن تكون قوة مساندة لتغيير أبطاله من حلفائها السياسيين.وعندما رحل جمال عبد الناصر انفرطت قواعد التوازنات جميعاً، خصوصاً أن رحيله المفاجئ قد مكّن لتداعيات الهزيمة في 5 حزيران 1967 أن تفعل فعلها في الدول العربية بمجملها، تعديلاً وتغييراً وانقلابات على الذات..فقَدَ العرب <مرجعيتهم> السياسية، وقيادتهم المعنوية القادرة على منع الاشتباك الداخلي أو فضه، إذا ما وقع، ولو بحلول مرحلية..أما بالنسبة إلى لبنان فقد كان مقدراً عليه أن يعيش مرحلة من الاضطراب التي سرعان ما تطوّرت، بالتحوّلات التي أحدثتها المقاومة الفلسطينية على موازين القوى الداخلية إلى حرب أهلية، امتدت ـ ولو بتقطع ـ طوال السبعينيات والثمانينيات… خصوصاً أن <إخراج> الثورة الفلسطينية من لبنان، بضغط الاجتياح الإسرائيلي لم يسقط أسباب الاشتباك الداخلي حول النظام بل هو زاد من حدتها فتفجرت مستولدة حروباً أهلية متعددة الجبهات والقوى…. حتى كان اتفاق الطائف حيث تمت إعادة صياغة النظام السياسي، عبر الأخذ بالاعتبار التوازنات الجديدة بين قوى التغيير وأهل النظام القديم.[ [ [القصد أن الهزيمة العربية في 5 حزيران 1967 قد أسقطت التوازنات التي كانت قائمة، والتي ساعدت عاصمة القوة العربية آنذاك، القاهرة في ظل جمال عبد الناصر في تأمينها لردح من الزمن، خصوصاً أن العنصر الإسرائيلي قد اقتحم النسيج الداخلي، لا سيما في لبنان، مستفيداً من وجوه الخلل في النظام والمتسبّبة في انشقاق الشعب لأسباب سياسية جذورها طائفية ومذهبية.وها إن هذا النظام لا يفتأ يستولد الأزمات التي تبدأ سياسية ثم تتدرّج نزولاً نحو <الفتنة>، مع وعي الأطراف جميعاً بأن إسرائيل هي المستفيد الأول والأخير من تعميم مناخ الفتنة الذي وجد الآن مصدراً خطيراً أين منه لبنان هو العراق تحت الاحتلال الأميركي..وفي منطقة تعيش تحت خط الزلازل، منذ 5 حزيران ,1967 يصعب استقرار أي نظام، لأن العجز السياسي عن مواجهة الخطر الأصلي سيستولد من الداخل خصوماً سرعان ما سيتبدون في صورة <الأعداء> بينما العدو الحقيقي الوحيد يكتسب مزيداً من الأمان نتيجة انشغال الجميع عنه… برغم أنه كامن في أعماق كل ما يتبدى وكأنه داخل الداخل!

Exit mobile version