حتى في العتمة الناجمة عن اغتيال الكهرباء في لبنان بالضربة الإسرائيلية الثالثة، فلقد كان واضحا أن الإدارة الأميركية هي التي تتولى هذه المرة إدارة الحرب ضد اللبنانيين عموما، وتفرض الظلام على البلد الصغير الطامح باستمرار لأن ينال »غبرة رضاها« فكيف بمساندتها أو بمساعداتها المرتجاة؟!
من قبل الإغارة الإسرائيلية، منتصف ليل الإثنين الثلاثاء، قدمت الإدارة الأميركية حيثيات الحكم، مجددة ومشددة اتهاماتها لمقاومة الاحتلال الإسرائيلي، ممثلة ب»حزب الله« بالإرهاب،
وبعد الإغارة التي نجحت في إظلام بيوت اللبنانيين وكبّدتهم خسائر باهظة تزيد من حدة أزمتهم الاقتصادية وتفاقم من ضائقتهم المعيشية، أصدرت الإدارة الأميركية حكمها الصارم: البراءة لإيهود باراك، بل والتنويه بشجاعته وكفاءته وجدارته بلقب »بطل السلام« والإعدام للمقاومة في لبنان ومن معها من جمهوره، ومَن يساندها خارج حدوده، وسوريا بالذات بالاسم!
فعلت الإدارة الأميركية ذلك بينما كان الإسرائيليون يناقشون ويتجادلون وينقسمون حول قرارات حكومتهم، العسكرية منها والسياسية، ومدى ملاءمتها لسلامتهم ولمستقبلهم، وحول شخصية »بطلهم« إيهود باراك، فيوجهون إليه اتهامات قاسية من بينها الغرور والتسرع والتفرد:
»نحن أمام لعبة ساخرة وحشية«
»لا شك أنهم في »حزب الله« أكثر ذكاء من قائدنا وقيادتنا العسكرية من الثرثارين..«
»هل نبقى في لبنان من أجل إنقاذ بقايا مصداقية باراك الذي تعهد بالانسحاب حتى تموز؟! الثمن لا يبرر ذلك!«
»لماذا هذه الاستعراضية التي تركز على سترة باراك الجلدية؟ هل هو عارض أزياء يحاول إبهار الجمهور بملابسه؟«
هذه نماذج مختصرة جدا من الكتابات والتصريحات والتحليلات التي تحفل بها الصحف الإسرائيلية يوميا، وثمة ما هو أقسى وأطرف… من ذلك القول »ان الجمهور الإسرائيلي يؤيد بأغلبيته الساحقة استمرار المفاوضات السياسية الى جانب تأييده العمليات العسكرية الملائمة في لبنان«؟!
أما حول الدور الأميركي فالمنطق الإسرائيلي يمكن تلخيصه بما كتبه يسرائيل سيغال في صحيفة »يديعوت أحرونوت«، أمس، السبت:
».. والدليل هو أن الولايات المتحدة، »الوسيط النزيه«، لم تتردد هذه المرة من الوقوف إلى جانب إسرائيل بحزم لم يتكرر منذ عهد رابين..
»لقد حشر الواقع في لبنان حكومة باراك في شرك سياسي داخلي وخارجي، والمعضلة العسيرة هي إما الاستمرار قدما وعدم التراخي والدخول في معمعان الشرك وفقدان الأمل السياسي، أو »الانثناء آخ، يا لها من كلمة مستطابة عند المولعين بالقوة الكاسحة على أصنافهم والانسحاب!!«.
لماذا هذه الحرب الأميركية الشرسة على لبنان؟!
هل هي تستهدف فقط إعادة سوريا إلى طاولة المفاوضات مع إسرائيل وبشروطها؟! وأول الشروط الإسرائيلية أن يُستدرج لبنان إلى مفاوضات لا موضوع لها إلا الضغط على سوريا، لأن انسحاب جيش الاحتلال لا يحتاج إلى تفاوض، ولا الحدود الدولية تحتاج إلى ترسيم، وتنفيذ القرار الدولي 425 يغطي هذا كله، أما ما عداه مما يتصل بالتسوية الشاملة فلا يمكن للبنان أن يتفرد أو ينفرد فيه.
والحقيقة إن الحرب الأميركية ضد لبنان تحت عنوان ضرورة التخلص من »الإرهابيين« ممثلين بمجاهدي المقاومة الباسلة، لم تبدأ بتصريحات مادلين أولبرايت ولا هي توقفت مع الأقوال الخارجة على كل عرف التي أدلى بها »فتاها« المدلل جيمس روبن، ولقد سمعنا هنا في بيروت نماذج »ملطفة« منها في الشهور القليلة الماضية، وهي لم تلق مع الأسف الرد الرسمي الذي تستوجبه.
… أما عندما بلغ السيل الزبى وتهاطلت التهديدات الأميركية على رؤوس اللبنانيين ملحقة بهم وبقضيتهم المحقة من الخسائر بأكثر مما حققت غارات الطيران الحربي الإسرائيلي وهو أميركي أيضا وقذائفه القاتلة للنور وهي أميركية أيضا وأيضا فقد تحركت الحكومة، أو بالتحديد رئيسها، فرد على مادلين أولبرايت شفاهة ثم خطيا، وكتب إلى أمين عام الأمم المتحدة، وطلب أن تبعث رسالة الى مجلس الأمن الدولي تتضمن ما جرى للبنان، لتكون بين وثائقه.
ثم التقى السفراء العرب، كلاً على حدة (لأن ما يُقال لواحدهم لا يُقال للآخر)، بينما التقى السفراء الأجانب مجتمعين (ربما لأنهم في مواجهة الأميركيين واحد..).
والحركة بركة، ولو بحدها الادنى، ومن دون موفدين وأسفار وتكاليف وطلب مواعيد قد لا يكون من السهل الحصول عليها، وقد يكون مستحيلا توقع ان تعطي ما يتناسب مع الوقت المهدور ووعثاء السفر والامل في ان يكون بين المسؤولين العرب، بعد، من يأخذ بمبدأ »انصر اخاك« او »اغاثة الملهوف«، بعد اندثار وحدة الهدف ووحدة الصف وانقسام الانظمة العربية بين متضامنين مع لبنان وبين متضامنين مع اسرائيل او بين »محايدين« كاولئك المتباهين »بالعلاقة الطيبة التي تربطهم بمختلف الاطراف«!!
على ان هذه الحركة على ضرورتها لا تكفي، ولا بد من الخروج الى الحكام العرب، ليس طلباً لمساعدات مالية تعوضنا اضرار الضربة الاسرائيلية الجديدة، بل لمواجهتهم وإحراجهم و»محاسبتهم« معنوياً على استقبالهم القادة الاسرائيليين، وعلى تبنيهم المنطق الاميركي الاسرائيلي، حول المقاومة الباسلة في لبنان.
لقد ردت اجهزة الاعلام العربية، حتى تلك المعروفة بميولها الاميركية (كحكوماتها) بعنف على اتهامات الادارة الاميركية للبنان ومقاومته، وأدانتها بصراحة على مساواتها بين الجلاد والضحية، بل وحاسبتها وكأنها هي من يشن الحرب ضد لبنان، وهو في هذه اللحظة، عنوان العرب ومصدر اعتزازهم،
وعلينا ان »نقاتل« داخل العواصم العربية، فنحن اصحاب حق، لا طلبة قروض او معونات، ومسرح قتالنا هو القضية العربية المشرفة، وما نريده منهم هو »الموقف« لا المال، ولاننا »نتفهم« حرجهم فاننا لا نريدهم ان يأتوا للقتال معنا، ولكن ان يمتنعوا عن فتح عواصمهم وقصور الحكم فيها للعدو الاسرائيلي، وان يسحبوا بعثاتهم من تل ابيب، او ان يجمدوا علاقاتهم معها (وهذا اضعف الايمان) بدل ان يستمر بعضهم في ايفاد الوزراء والسفراء والمبعوثين المكلفين بالاطمئنان الى تنامي التعاون المشترك!
* * *
برغم كل ما كان وكل ما سوف يكون فان الجمهور اللبناني يحمل جراحه ويواصل حياته، ويبدع طرائفه اليومية، سياسياً واجتماعياً.
لا اغتيال الكهرباء، ولا مضاعفات الازمة الاقتصادية، ولا تزايد حدة الضائقة المعيشية، ولا »الانقسام« حول مشاركة رجال الدين في »تأبين« العملاء من المتعاونين مع الاحتلال او الخارجين على القانون، ولا الانتخابات النيابية التي اعلنت نتائجها قبل موعد اجرائها بشهور، ولا انتخابات اتحاد الائتلافات الملية في المجلس الاقتصادي الاجتماعي، الذي اسقط منه ارباب العمل والعمال،
.. لا شيء من ذلك كله صرف الجمهور اللبناني عن الاحتفال بعيد العشاق المستورد حديثاً، والذي بات احد اعظم الاعياد القومية!!
وخلافاً لإيهود باراك الذي يحدد المواعيد للانسحاب ثم يرجئها او يلغيها، فان »سان فالنتين« قد جاء الى الجمهور اللبناني بالعيد المنتظر في موعده تماماً، خصوصاً وانه برغم احتياجه الى الكثير من الطاقة يفضل الاستغناء عن الكهرباء خصوصاً والنور عموماً..
وهكذا فان هذا الجمهور العنطوز، النرفوز، الطائفي ، المذهبي، العلماني، الغني كأثرى اهل الارض، الفقير كما فقراء الهنود، المقاوم كالجبابرة المستشهد كمن في نزهة، المعارض، الموالي، المحتفل بالحياة كما تستحق ان يحتفل بها،
هذا الجمور يحتفل اليوم بعيد العشاق وكأن ما حدث ويحدث في الجنوب هو نوع من الموسيقى التصويرية او الالعاب النارية المصاحبة لمهرجان »وطني«، مع »مبتدع« العيد الذي جعله العشق قديساً بينما عاش قيس بن الملوح »مجنوناً« ومات »مصدوراً« تطارده لعنات اولئك الذين اخذهم الى الشعر!
والحرب الاميركية مستمرة،
لكن المقاومة المتجذرة في ارادة اللبنانيين الى تعاظم والى مزيد من الكفاءة.
وسيبقى لبنان عنواناً لكرامة العرب ولاعتزازهم بأرضهم وبأمتهم.