هل هي قسوة تجاور الظلم أن نَصِفَ المشهد المؤثر لافتتاح المؤتمر السادس لحركة «فتح»، في بيت لحم، أمس، وكأنه التشييع المهيب لهذه الحركة التي يحفظ لها شعبها الفلسطيني أنها قد أطلقت الرصاصة الأولى تحت شعار العمل لتحرير فلسطين بالكفاح المسلح قبل 44 سنة، لتنتهي «بسلطة» لا تملك حق القرار في شؤون بلادها، داخل فلسطين، التي ما تزال محتلة، وما يزال مستقبلها مهدّداً بالضياع؟!
فلنتجاوز حقيقة أن هذا المؤتمر للحركة التي كان شعارها «ثورة حتى النصر» إنما ينعقد داخل الأرض المحتلة، بإذن إسرائيلي..
ولنتجاوز حقيقة ان هذا المؤتمر قد انعقد، بالتالي، بعد صعوبات جمة وحساسيات متفجرة، أبرزها غياب أو تغييب أعضاء الحركة في غزة، بعدما رفضت «فتح» المقايضة بين هؤلاء وبين «الأسرى» الذين تعتقلهم من قيادات «حماس» وكوادرها في الضفة الغربية (والكل تحت الاحتلال!!).
ولنتجاوز الأجواء الاحتفالية المؤثرة عاطفياً، خصوصاً ان العديد من قيادات «فتح» وكوادرها في «ديار الشتات» قد تمكنوا أخيراً من الوصول إلى أرضهم المقدسة، وكثير منهم يتنسم هواءها العليل ويتبارك بترابها للمرة الأولى في حياته… وان هذا الدخول إلى الوطن المحتل كان مستحيلاً لولا ان الاحتلال الإسرائيلي قد يسّر عليهم الأمر بأذون خاصة واستثنائية، «فتلاقى المشتتون بعدما كانوا يظنون كل الظن ان لا تلاقياً»..
فأما الشعب الفلسطيني فلا يحتاج إلى تأكيد حضوره لأنه يؤكد على مدار الساعة بدماء مجاهديه وبحرية أسراه الذين تجاوزوا الأحد عشر ألفاً في سجون العدو الإسرائيلي، ثم ان صموده داخل أرضه أو داخل هويته (ولو في الشتات العربي أو في المنافي البعيدة) لا يحتاج إلى دليل… بل انه صاحب أطول وأعظم ثورة في التاريخ إذا ما تذكرنا انه باشرها في ثلاثينيات القرن الماضي.
لكن حركة فتح بالمهمات الجليلة التي انتدبت نفسها لتحقيقها عند التأسيس ثم على امتداد دهر الكفاح المسلح، بالانتصارات والخيبات والمرارات والانتكاسات وسقطات التفريط والانشغال عن فلسطين بأوهام سلطة طارئة ودخيلة خارجها والضياع عن الهدف المقدس،.. حركة فتح هذه هي التي كان يفتقدها أمس الشعب الفلسطيني والجمهور العربي الذي تابع الحفل الخطابي بعيون تغطّيها دموع التأثر والخيبة معاً.
هل بقي من فتح بعد السقوط في أفخاخ أوهام السلطة في عواصم عربية عدة، آخرها بيروت، ثم في تيه المنافي قبل السقوط المدوي في أوسلو، ثم ما أعقبه من عمليات ابتزاز يومية، وبعد التهاوي في شبكة «السلطة» وصولاً إلى النهاية المفجعة باغتيال القائد ياسر عرفات ومنع التحقيق في ظروفه والمسؤولية عنه، ما يمكن استنقاذه بمثل هذا المهرجان العاطفي الذي يغري بالبكاء؟!
هل تستطيع، بعد، هذه «السلطة» المرتهنة للاحتلال الإسرائيلي، ان تنفخ في رماد الحركة التي كانت ثورية، فتح، بكل تراث التنظيم الشعبي العريض الذي بذل التضحيات الجليلة على طريق التحرير، فتجدد الدماء في خلاياها لتستكمل أداء المهمة التي كانت نذرت نفسها لها، قبل دهر، خصوصاً وقد تخلى عنها ـ بل عن فلسطين جميعاً ـ «أهلها» العرب، بعضهم بذريعة انها تفردت وفرطت، وبعضهم الآخر لأنه كان سبق إلى التفرد والتفريط ثم أخذ يضغط عليها لتلحق به فتغطيه باسم فلسطين ذات الوهج المقدس، وبذريعة انه ليس بالإمكان أكثر مما كان فخذ وطالب وراهن على الزمن، لأنه حليفك الأبدي؟
[ [ [
هي مصادفة قدرية ولكن دلالاتها موجعة ان يغيب المناضل شفيق الحوت، الذي كان أحد سيوف القضية، بالتزامن مع انعقاد المؤتمر السادس لحركة فتح، مكتسباً بموته في بيروت رمزية صارخة: لقد انتهى زمن «الثورة»، وتباعد حلم «الدولة» حتى كاد يختفي، والتهمت الانقسامات الفلسطينية إلى حد التصادم بالسلاح بين الاشقاء ـ رفاق السلاح، الكثير مما تبقى من إشراق في هذه القضية التي كانت مقدسة، وستبقى مقدسة، بغض النظر عن تحوّلات من تصدّوا فتصدّروا القيادة السياسية لنضال هذا الشعب المجيد.
كانت الهتافات الواعدة بمتابعة المسيرة التي أطلقها في بيروت من احتشد لتشييع شفيق الحوت، الذي أعطى القضية عمره، لا تجد لها الصدى المناسب في تلك القاعة المدرسية في بيت لحم، حيث عقد المؤتمر الذي انتدبته «القيادة ـ الرئاسة ـ السلطة» لإعادة بعث الحركة التي استولدت تحت شعار الرد على الهزيمة، والذي يتبدى شيوخها وكهولها وكأنهم سلموا بالأمر الواقع الذي لا يملكون القدرة على تغييره.
لقد شاخت حركة «فتح»، ومثلها معظم «الفصائل» التي شكلت معها، وغالباً تحت قيادتها، وأحياناً بمعارضتها، قيادة النضال الوطني الفلسطيني في حقبة الكفاح المسلح التي غدت من الذكريات.
ومن أسف ان «حماس» استعجلت فرض نفسها كبديل، فأحرقت المراحل سياسياً، في حين انها «فكرياً» تتلفح بكل الشعارات الإسلامية التي أطلت بها «فتح» عندما استولدتها الضرورة والتي قادتها إلى التصادم مع قيادة «حركة التحرر العربية»، فلما جاءت هزيمة 5 حزيران أخذ الوهم بعض قادة فتح إلى الافتراض أنهم بديل الأنظمة ثم أخذهم الغرور إلى توهم أنهم باتوا «القيادة»، خصوصاً وقد اتخذها ملجأ ً أشتاتٌ من الخارجين على «الايجابي» في أنظمتهم، أو الخارجين منها إلى «الثورة الدائمة» والذين انتهوا مروجين «للسلطة على أي شبر من فلسطين»… وها هي السلطة تقف على ذلك الشبر تحت حراسة الاحتلال.
هل نقول ان هذا المؤتمر، في الحساب الأخير، يصبّ في خانة الاحتلال الإسرائيلي الذي لولا اذنه لما انعقد؟!
وهل نقول إن هذا المؤتمر لإضفاء شرعية جديدة موهومة على «سلطة» يبقى عليها الاحتلال طالما ظلت «عاقلة» تنبذ العنف وتتبع خريطة الطريق التي تأخذ من يسلكها بعيداً عن فلسطين؟
في هذا ظلم لتاريخ كوكبة ممتازة من المناضلين الذين نحفظ لهم الاحترام وإن كان هدهم التعب واليأس من «العرب». لكن التسليم بالأمر الواقع أكثر ظلماً وإيلاماً.
الطريف ان الكل يائس من «العرب»، والكل ينسى انهم «العرب».
وفلسطين ولاّدة… ولن يتوقف نضال شعبها العظيم عند السلطة التي لا تملك من أمرها شيئاً، ولا عند الذين يأخذهم الوهم إلى الافتراض ان «سلطتهم» ستكون أفضل من «السلطة» الأخرى، فيبررون الخطأ بالخطيئة أو العكس بالعكس.
مع التمني ألا يكون المؤتمر السادس لحركة «فتح» المهرجان التأبيني لهذه الحركة الثورية التي اغتالها التطلع إلى السلطة واستعجالها، بينما شعب فلسطين برهن أن قدرته على الصبر غير محدودة طالما انه لم يضلّ الطريق!