طلال سلمان

عن دولة مقاومة و»التفاهم«

بعد خطاب »الحماسة« الذي كان ضروريا في أعقاب الضربة الإسرائيلية، كان لا بد من أن تجيء »السياسة«… وهكذا عدَّل الحكم في لهجته من دون تراجع عن الموقف، موجها الخطاب هذه المرة إلى الخارج بعدما أدى واجبه ومن موقع المسؤولية في تحصين الداخل.
وبالسياسة جاءت ترجمة الحماسة واضحة تماما كما أعاد تأكيدها الرئيس إميل لحود، أمس، وكان قد حددها معه وإن بتعابير مختلفة لفظا، رئيس الحكومة الدكتور سليم الحص: كان العدو يريد لنا ومنا أن نسقط أو نحرق جميع الأوراق التي في أيدينا، وأعظمها شأنا وأهمها تأثيرا المقاومة… ونحن غير مستعدين للتخلي عن موقفنا والافتراق عن المقاومة وبالتالي التسليم بانتفاء الحاجة الى »تفاهم نيسان« إلا إذا ما تم إحياء العملية السلمية وتمت العودة إلى طاولة المفاوضات تمهيدا للوصول الى صيغة اتفاق عادل وشامل لا تفرد فيه ولا انفراد، لا تفريط فيه ولا إذعان..«.
كان لا بد والعدو ينشر الموت والعتمة ويحاول اغتيال »تفاهم نيسان« من شحنة تعبوية عالية تعيد التأكيد على الموقف المبدئي: الصمود في وجه العدوان، وبالتالي منع استفراد المقاومة والرد على الدعايات المغرضة والهمسات الخبيثة واللوم الدبلوماسي الناعم، وكانت جميعا تركز على تعميم الادعاء بأن المقاومة هي التي »تحرّشت«، أو استدرجت فردت موفرة الذريعة لبنيامين نتنياهو لكي يوجه ضربته القاسية الى لبنان في بنيته التحتية!
كأنما كان نتنياهو عاجزا عن اختلاق أي ذريعة لتفجير أحقاده في لبنان الذي يفترض (وله الحق!!) ان مقاومته الباسلة بمواجهاتها المكلفة لجيش الاحتلال كانت على الأرجح السبب الأول في تحطيم أسطورته كرجل لا يقهر وكشف الادعاء الكاذب في الصورة التي روّجها عن نفسه بأنه سيجبر العرب جميعا على الزحف طالبين منه الأمن والسلامة فقط وليأخذ ما شاء من أرضهم وإرادتهم ومصيرهم فوق ترابهم الوطني.
وبرغم المجهود الدبلوماسي المكثف الذي بذلته واشنطن، على وجه الخصوص، فلقد كان مستحيلاً أن تطمس حقيقة العدوان الإسرائيلي الصارخ، واستطرادا جلال الخدمة التي أداها نتنياهو »لرجلها« الجديد إيهود باراك… فلقد تحمّل »السلف الصالح« عن خلفه اللدود الغرم تاركا له أن يفيد من الغنم بغير أن »تتلطخ« يداه بدماء اللبنانيين، وأن يبدأ عهده مداناً بتدمير منشآت حيوية (الكهرباء والجسور) بعيدا عن أرض المواجهة في »الشريط المحتل«.
.. والأخطر أن يضبط متلبسا، وهو بعد في أيامه الأولى بمحاولة اغتيال »تفاهم نيسان« الذي يجسد إرادة دولية و»تجميدا« لا بد منه »للتوتر« في انتظار نفخ الحياة في العملية السلمية التي ترعاها الإدارة الأميركية، والتي ترى في وصول باراك فرصة لدفعها في اتجاه الخاتمة المقبولة لوقف »الصراع التاريخي« في هذه المنطقة المتفجرة.. وهو إنجاز تحتاجه هذه الادارة للتجديد لنفسها عبر نائب كلينتون ومرشحه الأثير آل غور.
أما وقد تحقق لها ما أرادت، فقد بات بوسع واشنطن التي ظلت تغمغم كلماتها ولا توضح موقفها تماما، أن تجهر بأن »تفاهم نيسان« باق حتى يمكن الوصول الى حل نهائي عبر المفاوضات التي سيعود إليها الجميع، برعايتها، في إطار »العملية السلمية« التي أطلقها مؤتمر مدريد.
كذلك كان لا بد لواشنطن من أن تحفظ لفرنسا جائزة الترضية اليتيمة التي نالتها (باسم أوروبا) في »تفاهم نيسان«، لا سيما بعد ما تجرعته فرنسا وسائر أوروبا من مهانة عبر الحرب الأميركية على يوغوسلافيا، حيث تولت إدارة كلينتون القيادة منفردة ونفذت خططها الخاصة التي تتجاوز بأغراضها الفعلية البلقان لتشمل القارة المزهوة باقترابها من التوحد ومن احتلال مكانة الشريك تمهيدا للقفز الى موقع المنافس.
ما يعنينا في لبنان أن نتجنب الخطأ السياسي، في هذه اللحظة، الدقيقة جدا، وأن نحصّن موقفنا الوطني المتميز بالوعي وحسن القراءة.
ومع التقدير لموقف الحكم المعبّر عن وجدان الناس في احتضان المقاومة، وفي التوكيد الدائم على »وحدة المسار والمصير«، فمن الضروري »توضيح الحدود« بين الأطراف الثلاثة المتصلة المنفصلة والمتكاملة في آن: لبنان الرسمي والمقاومة الباسلة فيه وسوريا، مظلة الصمود وقلعته.
لا جدال ولا شك في وحدة الموقف، ولكن قد يكون ضروريا تحديد هامش الحركة بحيث تكون الأطراف موحدة في الهدف متمايزة في التكتيك. فليست المقاومة جيشا، ولا يجوز أن تكون، وللجيش ضوابط لا تلزم المقاومة.. واختلاف الأسلوب مصدر قوة، خصوصا في ظل إرادة سياسية واحدة، فللحكم، من موقعه، لغته وللمقاومة لغتها، حتى وهما متوحدان في المعنى.
ليس على المقاومة أن تحرج الحكم، وللحكم أن يستفيد من الهامش الإضافي المسلَّم به للمقاومة، باعتبارها »حركة تحرير شعبية« وليست »مؤسسة حكومية أو شبه حكومية« تأتمر بأمر السلطة مباشرة وتحملها بالتالي مسؤولية حركتها في مواجهة العدو.
ولخير الدولة، وخير المقاومة، أن تظل الحدود واضحة تماما، فالتداخل قد يضعف القدرة على المواجهة، المتعددة الجبهات، مع عدو شرس له كل هذه القوة ميدانياً وكل هذه التغطية السياسية دولياً.
والمقاومة، وإن كانت حركة شعبية، هي من الدولة وفيها وليست خارجها على الإطلاق، وهامش حريتها يضيف إلى قوة الدولة ويزيد من قدرتها على المناورة، في معركتها الصعبة من أجل استخلاص الحق الوطني والقومي.
وكل زيادة في القدرة يعزز موقف سوريا التي لها القيادة في معركة المصير الواحد هذه.
والميدان يوشك أن ينفتح، كما تدل المؤشرات والتقديرات، على مصراعيه، للمعركة الأقسى: المعركة السياسية التي تحتاج كافة أنواع الأسلحة، وأهمها دقة القراءة لطبيعة المرحلة وتوازنات المصالح فيها.
طلال سلمان

Exit mobile version