طلال سلمان

عن ديموقراطية بلدية شبكات تفتيش على سكود

لم يتوقف «الشعب اللبناني العظيم» أمام حقيقة أنه قد غدا، بشخص مندوبه في الأمم المتحدة الدكتور نواف سلام «رئيس العالم»، ابتداءً من يوم السبت الماضي، فاندفعت جموعه إلى صناديق الاقتراع لتقرّر كل مدينة وضيعة ودسكرة وقرية ومزرعة مَن يكون «رئيس جمهوريتها الذاتية»، ممثلاً بالمختار أو برئيس البلدية، فهذا أهم وأبقى وأنفع «في النكاية» بالأخ الشقيق أو الجار الصديق أو بكليهما معاً.
كذلك فإن هذا «الشعب اللبناني العظيم» قد رمى خلف ظهره التفاصيل المنهكة المتصلة بتهريب صواريخ «سكود» الروسية على أجنحة الفراشات وعصافير الدوري المتسللة عبر الحدود السورية، آناء الليل وأطراف النهار، وبشهادة من لا يكذب أبداً تيري رود لارسن، ناظر القرار ـ الوصاية 1559، التي دعمها وأكسبها صدقية عالية الرئيس الإسرائيلي عاشق السلام شيمون بيريز… فما قيمة سكود في اللعبة الديموقراطية المحببة: صراع الديكة العائلية على مواقع البلديات والمخاتير في مدن لبنان وقراه الجبلية الجميلة التي تغنى بها الشعراء ورقص لها فرسان الدبكة وشدت لها فيروز العظيمة محاطة بالرخيمين وديع الصافي ونصري شمس الدين، بينما عاصي الرحباني يقود الأوركسترا ومنصور يضبط الأوزان؟!
وكان هذا «الشعب اللبناني العظيم»، بقياداته الطوائفية المتفقة عليه، قد أسقط من ذهنه، قبل ذلك، الوقائع البوليسية المثيرة، لشبكات التجسس الإسرائيلية التي أكدت له الأجهزة الأمنية المتعددة الفروع، أنها موزعة وفقاً لقواعد إلغاء الطائفية السياسية (التي نص عليها اتفاق الطائف!!)، على جميع المناطق والجهات، ساحلاً وجبلاً، معتمدة عدالة في التوزيع أين منها حكومة الوحدة الوطنية وتعييناتها وفق المنهجية المستحدثة للتوازن الطوائفي والمذهبي.. والعنصري!
ثم ان هذا «الشعب اللبناني العظيم» كان قد تجاوز، بمشاعره الوطنية المتنبهة على مدار الساعة، الاتفاق الذي أفرخ اتفاقات أمنية مع «إدارة مكافحة الإرهاب» في وزارة الخارجية الأميركية، تسمح لها بأن تراقب وتفحص وتستمع وتدقق في التصرفات والتحركات والمراسلات والاتصالات بين مختلف الأجهزة والإدارات الرسمية في لبنان، لكي تضمن لها سلامتها من احتمالات الاختراق والتنصت عليها أو تسرّب (أو تسريب، لا فرق) المعلومات إلى أي من التنظيمات الإرهابية، لا سيما تلك التي تتستر بأسماء الله الحسنى أو بالشعارات ذات الشميم الديني، وكل ذلك خطير ومثير ويمكن أن يهدد «العملية السلمية» وقد يخدم «القاعدة»!
كذلك فإن هذا «الشعب اللبناني العظيم»، بقياداته من أهل الطبقة السياسية المنزهة عن الأغراض والبريئة من شبهة الاستثمار الطائفي، قد نأى بنفسه عن التشكيك في صحة التحقيقات وسلامة الإجراءات المتصلة بهذه التفاصيل جميعاً: فما قيمة الاتفاقات الأمنية في ظل حكومة الوفاق الوطني، وفيها عتاعيت الموالاة وعضاريط المعارضة الذين لم يشتهر عنهم الشغف بالقراءة أو الهمة في المتابعة؟ ليراقب الأميركان ومعهم الإسرائيليون الفضاء والبحر واليابسة، وخطوط الهاتف الثابت والمحمول بما فيها «الآي فون»، وليسمعوا المخابرات جميعاً، المشفرة والمنقطة أو تلك التي بالإيماء… ليس عندنا ما نخاف منه أو ما نخاف عليه. ولولا أنهم هم الخائفون لما راقبوا… إذن فليصولوا وليجولوا في الأنحاء كافة، بإذن من وزارة الخارجية أو من دون إذن!
ثم ان لجان التفتيش الأميركية التي تطوف بالحدود اللبنانية ـ السورية سوف تتأكد ـ بالملموس ـ أن أي صاروخ سكود لا يمكن أن يعبر من دون تأشيرة، وبعد أن يتثبت موظفو الأمن العام والجمارك من صلاحيته، حتى لو استدعى الأمر تجربة إطلاقه لاستكشاف مداه وهل يطال واشنطن أم أنه لن يتجاوز تل أبيب.
فالصواريخ ليست قمحاً فاسداً ولا أدوية مر عليها الزمن ولا عدساً مسوساً، ليسهل تمريرها أو احتجازها في أهراءات المرفأ في انتظار تهريبها من دون معاملات مالية مصدقة!
المهم أن «الشعب اللبناني العظيم»، وبتوجيه من طبقته السياسية الممتازة، قد اندفع يعانق الديموقراطية بعنف يداني الخنق، في القرى المنتشرة في بطون الأودية وعلى رؤوس التلال، يقتحم المسالك الجبلية الوعرة، ينظر أفراده إلى من يعتبرونهم خصوماً شزراً: كيف تجرأوا فرشحوا أنفسهم منافسين؟! طيب… سنحرمهم من خدمات البلدية إن فزنا، وسنمتنع عن تسجيل ولادة أبنائهم متى أخذنا «المخترة».
[ [ [
مع إعلان نتائج الحرب اللبنانية العظمى حول البلديات والمخاتير سيتبدى أطرافها جميعاً فائزين: مَن كانوا حزبيين وهجروا أحزابهم سيتركون لها المجال لتدّعي أنها قد استعادت اعتبارها بهم… ومَن كانوا قد ادّعوا أنهم خرجوا على عصبياتهم العائلية سيعودون إليها تائبين، حتى إذا ما كان ترشيحهم قد تمّ عبر «تحالفات» اتخذت طابع الائتلاف الاضطراري بين قوى سياسية متعارضة في مواقفها المعلنة.
العصبيات ما تزال هي المرجعية في الانتخابات: طائفية ـ مذهبية على المستوى «الوطني»، وعشائرية ـ عائلية على المستوى المحلي… فكرامة العائلة كثيراً ما تتجاوز كرامة الحزب السياسي، بل «المصلحة الوطنية العليا» كما يشار في الخطب الرسمية.
وبالتأكيد فإن جميع المعنيين بأمر الانتخابات البلدية والاختيارية كانوا في قمة السعادة لأن التهديد بالإصلاحات المرتجلة، كالنسبية وحق الشباب من سن 18 سنة في الاقتراع، فضلاً عن حصة المرأة في المقاعد البلدية، قد ظل تهديداً وأرجئ تنفيذه إلى دورة أخرى، قد تقع بعد ست سنوات أو بعد دزينة من السنين أو بعد قرن، لماذا الاستعجال طالما أن المبدأ قد أُقر بتصريحات علنية كرزها الأقطاب وأنصاف الأقطاب على مسامع الناس جميعاً، وتم تسجيلها بالصوت والصورة؟!
هي انتخابات خارج الديموقراطية؟!
ربما… ولكن مجرد تبادل المواقع يظل شيئاً من الديموقراطية. وما لا يدرك كله لا يترك جله! وانظر من حولنا بامتداد هذا الوطن العربي الكبير ستكتشف أننا بألف خير بالمقارنة مع إخواننا، مشرقاً ومغرباً.
ربما لهذا اختارونا، بشخص الدكتور نواف سلام، لرئاسة العالم، بمعزل عن حكاية الآلية المعتمدة في مجلس الأمن… فلبنان يستحق مثل هذا التكريم وأكثر منه: ألم يبتدع الديموقراطية الطوائفية باعتبارها ركيزة من ركائز الوحدة الوطنية التي لا تصدعها الرقابة، أميركية وإسرائيلية، للحدود والاتصالات، ولا شبكات التجسس التي تظهر في مواسم محسوبة ثم تختفي ولا من يسأل: أين اختفت وكيف؟!
يكفي دليلاً أن دولتنا بنظامها الجمهوري الديموقراطي تعيش بلا موازنة منذ خمس سنوات أو يزيد!. ومع ذلك فالازدهار يكاد يكون مضرب الأمثال!
دق على الخشب!!

Exit mobile version