طلال سلمان

عن ديموقراطيات طوائف في اتحاد جمهورياتها عائلية

دخل عليّ الصديق القادم من عاصمته العربية البعيدة تسبقه دهشته المنطوية على قدر من الفرح، وبادرني قبل السلام بقوله:ـ إن وطنكم الصغير هذا عظيم حقاً، وشعبكم، الذي صوّرته الأخبار والتحليلات المتسرعة والأحكام المسبقة المحكومة بالغرض وكأنه أمم شتى، أرقى بكثير وأشد ترابطاً مما يفترض من يسمع عن لبنان ولا يعرفه… والشعب، مع الاعتذار، أفضل من قياداته عموماً، أو فلنقل: من معظم قياداته!قبل أن ننهي العناق استأنف حديثه بحماسة لافتة، قال:ـ إنه يومي الخامس في بيروت، هذه العاصمة الأبية، ولقد شهدت ثلاثة مهرجانات فنية، استمعت خلالها إلى جمهرة من المطربات والمطربين ما كنت لأعرف طريقي إلى حفلاتهم الساهرة، في أي مكان آخر… وقمت بنزهات ممتعة على الشاطئ، وكدت أشارك في <الماراتون من أجل السلام> مع آلاف المواطنين والضيوف الذين ركضوا معاً، وقد رموا خلفهم الأحداث الموجعة التي سمعنا وقرأنا عنها قبل أيام، والتي شهدتها هذه البيروت الهائلة القدرة على التجدد وعلى احتضان سكانها وضيوفهم… وها أنا أجيئك بعدما تابعت واحداً من إنجازات المقاومة بالإفراج عن أسير كان في السجون الإسرائيلية لزمن طويل.مع القهوة كانت فورة الحماسة قد هدأت، ثم أخذت تخبو مع الدخول في تفاصيل اللعبة السياسية: ما قبل مؤتمر الدوحة وما بعده، انتخاب العماد ميشال سليمان رئيساً للجمهورية بما يشبه الإجماع (محلياً وعربياً ودولياً)، وصولاً إلى الاستشارات النيابية والتكليف ثم <عُقد> تأليف الحكومة الجديدة و<الحروب> التي تخلخل صفوف التحالفات السياسية التي واكبت <الأزمة المفتوحة> التي هددت لبنان بل المنطقة عموماً بمخاطر شتى عنوانها الجامع هو: الفتنة!قال: لن أبدل انطباعاتي عن بلدكم الجميل هذا، وعن شعبكم الفائض الحيوية… لقد جلست إلى كثيرين، معظمهم لا يعرفني، فسألت وناقشت واستفسرت عمن وعما لا أعرف من تفاصيلكم اللبنانية غير المحدودة. كان الكل يريد أن ينسى أيام المحنة. كانوا يريدون أن يعيشوا شبابهم وشوقهم إلى الحياة. لقد عشت ساعات ممتعة أراقب وأستمع وأقرأ في الوجوه رغبة الكل في أن يعيدوا تأهيل مشاعرهم الطبيعية، ولمست الشوق إلى الحب، إلى الموسيقى، إلى الغناء، إلى التلاقي على الأمل بدولة لهذا الوطن المهدد دائماً بالعواصف.بعدما انصرف ضيفي عدت ـ مرغماً ـ إلى التفاصيل التي تكمن فيها الشياطين: جميل أن يتواصل المتقاطعون. جميل أن يتلاقى المتخاصمون في حكومة تكرس استقلال الطوائف. لكل طائفة ديموقراطيتها، ولكل ديموقراطية طائفية جمهوريتها، ولو على مستوى القضاء. وها هو اتحاد جمهوريات الطوائف (المتخاصمة) سيقوم عبر انتخابات <ديموقراطية> يستحيل التزوير فيها، إذ هي تكاد تكون <عائلية>، لا أغراب يتقدمون من صندوقة الاقتراع السحرية فيفسدون <اللعبة> والصفاء الديموقراطي! الحكومة هي مستشفى التوليد للانتخابات المقبلة بقانون أعرج مستعاد من ماضٍ سحيق. هذا يعني أن اللبنانيين قد عادوا، في تجربتهم الديموقراطية، نصف قرن إلى الخلف. وهذا يعني أن التوازنات بين القوى الكبرى عربياً ودولياً والتي كانت بين ضمانات الاستقرار لهذا الكيان قد تبدلت نوعاً، وإلى الأردأ والأشد تخلفاً. لبنان مرآة عاكسة للتوازنات: لقد ضعف <العرب> وتهاوت روابطهم الجامعة وطموحاتهم إلى التقدم، وتزايدت انقساماتهم حدة، فصار الأصغر <أكثر براءة> من الأكبر، حتى لو كانت له ارتباطات ملتبسة. صارت ارتباطات هذا <الأصغر> تعكس التوازنات بين الأقوى، فأمكن تمرير اتفاق الدوحة.هل يستغرب أحد، بعد، أن يكون الاتفاق، بطبيعته لا بمكانه، ارتداداً إلى الخلف؟ لقد عطل <الأكبر> أدوار بعضهم البعض، فصار التسليم بدور <الأصغر> منطقياً، وخصوصاً أنه <الأشطر> والأعظم قدرة على الاقتحام، بما في ذلك اقتحام ما كان محرماً، بعد أن أسقط <الأكبر> هذا الحرم.لا وقت الآن لاستذكار المساوئ. المهم الحفاظ على الإنجاز: ألم تتصاغر الأزمة التي كانت مخاطرها المتفجرة تنذر بفتنة عمياء، حتى بات ممكناً الشروع في حلها؟ هذا يكفي الآن! مع الشكر لقطر التي التقطت اللحظة!لا وقت الآن للذكريات المفسدة لليالي البهجة في قلب بيروت.وإذا كان البعض ممن يحتفظون بضمائرهم يقظة قد استذكروا، الآن، وبعد مرور واحد وعشرين سنة طويلة، رجل دولة ووفاق وطني نادر المثال، كرشيد كرامي، اغتيل في حوامة للجيش، ليصيب الغدر الرمزين معاً، فإن ذلك من الماضي… ولا بأس بشيء من النسيان لكي لا يفلت منا المستقبل. أليس العفو من شيم الكرام؟! وماذا يضير العفو أن يأتي مصحوباً بحصة في العهد الجديد؟! <من أجل لبنان> لا بد من طي بعض الصفحات المعتمة!ها قد عاد البحر إلى المدينة الفريدة في تجسيدها لإرادة الحياة، وعادت طيور النورس التي تنسج أجنحتها من زبد أمواجه، تطلق صيحاتها التي لا تطرب في العادة، فيسمعها <المشاؤون> على امتداد الشاطئ وكأنها بشارة العودة إلى الذات…. وها قد عاد أهل السياسة إلى لعبتهم العتيقة: تصغير الدولة لتصير بأحجامهم، وتكبير أحجامهم بتقسيم المقسم من الدوائر الانتخابية، وتعظيم أدوارهم لتصير الحقيبة الوزارية حقاً من حقوقهم المشروعة.أما الناس فإن آهاتهم في ساحة الشهداء، التي يطلقونها إعجاباً بالمطربات والمطربين، تختزن كماً هائلاً من الحزن على مستقبل أبنائهم في ظل ديموقراطية الطوائف التي لا تكف عن استيلاد الحروب الأهلية بمعدل مرة كل عشر سنوات، قابلة للتخفيض في مواسم… تصفية الديموقراطيات المستوردة.

Exit mobile version