أكثر ما يفتقده الناس، هذه الأيام، وحدة الحكم في الرؤية والقرار.
لم يعد ممكناً التمويه بطمس الخلافات العميقة التي تمتد من توصيف المشكلة وتحديد المسؤولية عنها إلى اقتراح الحلول: يستوي في ذلك الشأن الاقتصادي (والمالي)، والشأن السياسي بدءاً من العلاقة مع الأمم المتحدة والموقف من المقاومة ومزارع شبعا مرورا بالتعديل الذي طرأ على نص قرار التمديد لقوات الطوارئ الدولية، فجعل جنودها مجرد »مراقبين« للبنان واللبنانيين في أرضهم، وصولاً إلى التنصت وانتهاءً بأصول المحاكمات الجزائية ودور القضاء وموقعه من دولة الحريات والقانون.
والحكم قرار، وليس منتدى للنقاش وعرض وجهات النظر توكيدا لحرية الرأي وديموقراطية المشاركين فيه.
وفي غياب قرار الحكم المؤكد لوحدته تبهت صورة الدولة، بينما تتعزز قوة الطوائف ومرجعياتها وتحتل مزيدا من المساحة و»مشروعية« التدخل، »كشريك« للدولة ثم كبديل محتمل عنها.
لا يعطي الانشقاق في الحكم وقراره قوة لأي طرف فيه، بغض النظر عن مدى الصح والغلط في موقفه، بل سيكون مصدر اتهام لكل أطرافه بالتسبب في غياب القرار، أو في تعطيل القرار بينما وضع البلاد أخطر من أن يتحمل ترف التأجيل فكيف بالتعطيل والتهرب من المسؤولية؟!
ولقد قدّر الناس للرئيس رفيق الحريري صراحته في »توصيف الحال« خلال مقابلته المتلفزة الأخيرة، لكن صراحته شكلت مصدر قلق إضافيا: »لرئيس الجمهورية رأيه ولي رأيي ولرئيس المجلس النيابي رأيه والمرجع هو الدستور..«.
لكن الدستور لا ينفع وحده في توفير الحل اللازم للأزمة الاقتصادية، ولا هو ينتج دولارات كافية لخدمة الدين، فضلا عن سداده، ولا هو مؤهل لصياغة مشروع سياسي موحد للمختلفين في منطلقاتهم وفي استهدافاتهم، وبغض النظر عن مصالحهم.
للحكم قراءتان، وربما ثلاث قراءات، لكل مسألة، بل لكل رقم، حتى ليكاد ينعدم الرقم »الرسمي« والذي يمكن اعتماده في تحديد مشكلاتنا الاقتصادية وبالتالي في تحديد الخطة الكفيلة بمعالجتها.
المثل الأخير في هذا السياق هو التقرير (غير النهائي) الصادر عن صندوق النقد الدولي: ليس فقط أن أطرافا عدة في الحكم نشرت أو عممت نسخا عدة من هذا التقرير، بل أن القراءات وبالتالي الاستنتاجات كانت متناقضة إلى حد التضارب مما وسع دائرة القلق حول المستقبل.
وليس »التقسيم النوعي« للعمل في قلب الحكم بحيث »يستقل« القرار السياسي عن القرار الاقتصادي والعكس بالعكس، هو الحل، فتقسيم القرار يلغي »وحدة الحكم« ومن ثم يلغي القرار إذ لا أحد يستطيع العمل بنصف قرار، ونصف القرار كما الحقيقة هو نقيضه، كما كان يقول لينين.
إن مزيدا من الشحوب يصيب صورة الدولة يوما بعد يوم.
وعلى سبيل المثال وليس الحصر فإن »الدولة« كانت أشبه بضيف شرف، إن لم نقل أشبه بضيف ثقيل خلال جولة »البطريرك الماروني« في »الجبل الدرزي«..
لا يعني ذلك أن اللقاء كان تجديدا لثنائية استولدها الماضي ضمن ظروف معلومة على حساب دولة الحاضر التي لا تشبه الإمارة ولا المتصرفية ولا يمكن تقزيمها أو تقسيمها إلى مجموعة إمارات أو متصرفيات، بالمعنى السياسي.
فوليد جنبلاط أذكى من أن يرهن المستقبل، وطريقه مفتوحة أمامه وسيعة جدا، في ذكريات ماض زالت كل مقوماته الداخلية والخارجية من الوجود.
على أن الحديث عن عودة المهجرين، مثلا، بدا كأنه من خصوصية العلاقة بين هذه الطائفة وتلك، علما بأنه لولا »عودة« الدولة، وفي ظل ظروف خاصة جدا ومعروفة جيدا، ولولا أن الشعب اللبناني بملايينه الأربعة قد دفع من عرقه كلفة تلك العودة، لما كان ممكنا أن يعاد بناء منزل واحد ولا أن يعود مهجر واحد.
وللتذكير فقط فإن وليد جنبلاط كان الوزير الأول لوزارة المهجرين المستحدثة بقرار عربي، وسوري تحديدا، كان يعكس إرادة عربية بأن يستعيد لبنان دولته.
هو القرار، دائما. والقرار تجسيد لوحدة في الموقف، فإذا ما استحالت هذه الوحدة تعطل القرار وغابت الدولة وبقيت في الساحة الأزمات الثقيلة وحدها، تتوالد بلا انقطاع مستهلكة ما تبقى من الدولة وفاتحة الطريق أمام المخاطر جميعا، التي قد يكون أرييل شارون بين عناوينها… لكنه ليس المصدر الوحيد الخطر.