في هدأة الاجازة القسرية المفتوحة التي التهمت في طريقها اجازة عيد الفصح المبارك، دارت على مواقع التواصل الاجتماعي محاورات مفتوحة، أبرزها حول الاوضاع الطائفية التي تسببت في قيام الدول العربية، بحدودها الراهنة، وانظمتها القائمة.
في استنتاج اولي اتفق الجميع على أن القوى الاستعمارية هي التي غذت النعرات الطائفية والمذهبية في هذه المنطقة التي كانت توحدها اسباب حياتها بأفراحها البسيطة وهمومها الثقيلة التي تجتهد في نسيانها.. بقدر ما “يوحدها” سيف السلطنة العثمانية.. وان هذه السلطنة قد بالغت في قهر الجميع، وإن كانت قد حاولت استقطاب اهل السنة بتسمية “السلطان” خليفة المسلمين.
ثم أن السلطنة عاملت الطوائف المسيحية بحسب مواقف الدول الغربية، سواء السابقة عليها في استعمار المنطقة (فرنسا وايطاليا وبريطانيا) في مرحلة ما بعد الحروب الصليبية، او خاصة في ما سبق الحرب العالمية الأولى، ثم ما تلاها.
وللتذكير فان ما سبق وعد بلفور من ضغوط دولية على المرحلة التي شهدت نهاية السلطنة وولادة الجمهورية، جديرة بإعادة قراءة لوقائعها، والتوقف تحديداً امام الكلمة ـ النبوءة التي أطلقها آخر سلاطين العثمانيين، السلطان عبد الحميد، امام أحد مؤسسي الحركة الصهيونية والداعية المعروف ثيودور هرتزل والتي جاء فيها: “أخاف أن يصيبني في فلسطين ما اصابني في لبنان”.
ومعروف أن “الدول”، وبالذات بريطانيا وفرنسا والنمسا (آنذاك) وروسيا القيصرية، قبل انتصار الحركة الشيوعية بقيادة فلاديمير ايلتيش ـ لينين واقامة الاتحاد السوفياتي، قد نشرت مجموعة من الوثائق التاريخية حول سياسة الدول الاستعمارية (فرنسا وبريطانيا) في منطقتنا، تكشف طبيعة الاتفاق ومضمونه وتقسيماته وأبرزها:
اولاً: منح لبنان، لفرنسا بعد تعديل في حدود المتصرفية و”الحاق” ولايات طرابلس وبيروت والجنوب والبقاع بمتصرفية جبل لبنان (مع استثناء زحلة والهرمل لأسباب تتصل بأصول سكانهما) للكيان الجديد الذي سيكون “الجمهورية اللبنانية” وستوضع تحت الانتداب الفرنسي.
ثانياً: وضع فلسطين تحت الانتداب البريطاني، مع الاخذ بالاعتبار وعد وزير الخارجية البريطانية اللورد بلفور (وعد بلفور) للحركة الصهيونية لمساعدتها على اقامة “دولة يهود العالم” التي ستعرف باسم “اسرائيل” على ارض فلسطين مع “ايجاد الحول المناسبة لإجلاء اهلها العرب”.
ثالثاً: وفاء للشريف حسين، الذي اطلق في مكة المكرمة “الرصاصة الأولى”! ايذانا بالعمل لإقامة “الدولة العربية الجامعة عبر الثورة على السلطنة، وبرعاية مباشرة من “الحلفاء” (بريطانيا وفرنسا) الذين خاضوا غمار الحرب العالمية الاولى “لتحرير” العرب من جور السلطنة..
وفاء لهذا “الوعد الذي سرعان ما تبخر، اقتيد الشريف حسين إلى قبرص حيث مات منفياً، بعد وعد بمكافاة ابنائه.. وهكذا عين نجله الامير عبدالله اميراً على شرقي نهر الاردن، بعد ما اقتطعت بعض الارض في جنوبي سوريا لتكون “الامارة” الهاشمية… والتي ستحولها “نكبة فلسطين” إلى مملكة بضم الضفة الغربية لنهر الاردن إلى المملكة الاردنية الهاشمية القائمة على ضفته الشرقية، المقتطعة من الارض السورية.
رابعاً: مع سوريا اختلف الوضع، فقد واجهت القوات السورية المحدودة والتي كان معظمها في القوات التركية، ميسلون عند باب دمشق، بقيادة البطل الذي يقوم تمثاله هنالك الشهيد يوسف العظمة.
لم يكن ثمة تكافؤ. لا في العديد ولا في العدة.. وهكذا استشهد البطل يوسف العظمة والعديد من افراد قوته المحدودة.. ودخلت القوات الفرنسية دمشق، فلما وصل قائدها الجنرال إدموند هنري هاينمان أللنبي الى المسجد الاموي، بادر الى الوقوف عند ضريح القائد العظيم صلاح الدين الايوبي المدفون في حرم المسجد الاموي، والذي هزم الصليبيين ودخل القدس منتصراً.. وهو قد جاء بقواته من مصر بحراً، والتي كان يحكمها المماليك، وهو قد خطط مقاماً ان يدفع الصليبيين نحو صحراء سيناء حيث يستحيل ايصال المدد والمؤن إليهم. المهم، ان قائد قوة الاحتلال الفرنسي قد وقف امام ضريح صلاح الدين وهتف: ها قد عدنا يا صلاح الدين!
ولقد قرر الاستعمار الفرنسي تقسيم سوريا الى اربع دول: “سنية” بحلب عاصمة في الشمال، و”درزية” في جبل الدروز بعد فصل الدروز عن المسيحيين والسنة في حوران، ودولة علوية على الساحل (اللاذقية وطرطوس) .. ودولة سنية في دمشق.
غير ان وطنية السوريين دفعتهم الى توكيد وطنيتهم برفض هذا التقسيم، ولقد ثاروا في مختلف مناطقهم: العلويون بقيادة سليمان العلي، والدروز بقيادة المجاهد سلطان الاطرش، وابراهيم هنانو ومعه العديد من المجاهدين في دمشق.
كانت ثورة 1925 عظيمة، وحاصر المجاهدون المجلس النيابي الذي عين اعضاءه الاحتلال الفرنسي، فأصدر الحاكم العسكري الفرنسي امره الى طيرانه الحربي بقصف دمشق جميعاً، والمجلس النيابي ذاته مما اوقع العديد من الضحايا.
ولقد تعاظمت قوة الثورة التي تولى قيادتها الامير سلطان الاطرش وضمت العديد من القادة الوطنيين والثوار.. ولم يتردد الحاكم العسكري عن قصف دمشق بساحاتها جميعاً، بما في ذلك ساحة البرلمان.. لكن الثورة استمرت، وانضم اليها الشعب بمختلف فئاته واطيافه، وقد أكمل مواجهاته من دون ان يعطل حياته اليومية ومحاولة الاخذ بأسباب التقدم، ورمي مخلفات التتريك خلفه.
(ملاحظة: كان اعيان المسلمين والمسيحيين في لبنان يتباهون بمصاهرة السوريين، ويمكن تسجيل ان معظم رؤساء الحكومات في لبنان والعديد من الوجهاء ورجال الاعمال قد تزوجوا سوريات، ومن بينهم رياض الصلح وصائب سلام وعبدالله اليافي و… الخ. وكانت بلودان المصيف المختار للاعيان من ساسة لبنان وقياداتهم، قبل “اكتشاف” مصايف كسروان وجبيل والمتن (ضهور الشوير)، على وجه الخصوص التي بنى القصور والفيلات فيها وجهاء من سوريا وفلسطين والعراق وحتى من باشوات مصر.. وقد عبر احد البهوات المصريين عن انشراحه بالقول: يا اخي، الواحد هنا يحس انه جار السماء..)
كذلك فقد صارت عاليه مقراً صيفيا لأهل الدولة، الرؤساء الثلاثة ومن يحب ان يكون قريبا.. في حين اختار اثرياء العراق والكويت بحمدون وبعض بلدات المتن، حمانا وقرنايل الخ.. اما الوجهاء من المسيحيين (آل سرسق وطراد واده الخ) فقد اختاروا صوفر… خصوصا وان القطار كان يربطها ببيروت.. قبل ان يكمل رحلته في اتجاه دمشق، بينما الخط الساحلي يربط بيروت بحمص وحلب ثم تركيا فأوروبا..)
خامساً: أما الحكم في العراق فقدم “هدية” للأمير فيصل الابن الثاني للشريف حسين، والذي حرضه البريطانيون على تقديم “السنة” على الشيعة، ربما للشك في ولائهم.. وحين مات الملك فيصل تولى الحكم ابنه الملك غازي الذي قتلته هوايته في قيادة سيارات السباق، وكان نجله فيصل الثاني قاصراً فعين خاله الامير عبدالاله وصيا.. حتى قامت الثورة بقيادة الزعيم عبد الكريم قاسم ومعه معاونه العقيد عبد السلام عارف. ولقد حرض الشيوعيون وبعض وجوه الاقليات العرقية والطائفية عبد الكريم قاسم على رئيس دولة الوحدة (الجمهورية العربية المتحدة) فعاداه ورفض الانضمام الى دولة الوحدة بل قاطعها.. حتى قتل في ظروف ملتبسة في 14 تموز العام 1958.
فأما شبه الجزيرة العربية، بالسعودية فيها وامارات الخليج فتحتاج الى حديث آخر. الى اللقاء.