لم تيأس السعودية ومعها الإمارات من “قدرتهما” على “شراء” الثورة الشعبية العظيمة في السودان.
على العكس تماماً، أظهر شعب السودان ـ عبر مرابطيه في شوارع الخرطوم لمدة شهرين تقريباً، لا تغادر جماهيره الميدان لا في نهارات القيظ ولا في ليالي رمضان المبارك الذي لا يتخلف عن صومه لا رجل ولا امرأة ولا شاب مراهق ولا صبية تتقدم الصفوف وتعتلي رقاب أخواتها المتظاهرين لتهتف للحرية والعدالة بإسقاط النظام العسكري (الجديد) والدعوة فوراً الى انتخابات نيابية تكون نواة العهد الجديد الذي يصيغه الشعب.
بالمقابل فان الثورة الشعبية الجديدة في بلاد المليون شهيد “تسكن” الشارع: لا تغادره خوفاً من خديعة جديدة قد يقدم عليها “العسكر” الذي وافق مضطراً على “إجبار” بوتفليقة على مغادرة منصب الرئاسة محمولاً، لأنه عاجز عن المشي على قدميه، والشارع قد تجاوز حكاية استبداله برئيس عسكري..
طبعاً لم تجرؤ السعودية ومعها الإمارات على محاولة شراء هذه الثورة الشعبية الرائعة في سوق النخاسة، واكتفت فرنسا بإدارة وجهها الى الناحية الأخرى، أما الرئيس الأميركي المقامر فقد اكتفى، حتى اللحظة، بإدارة وجهه الى جهة الشرق، حيث أرسل أساطيله لحماية شواطئ السعودية والإمارات من تجدد حرب الصواريخ والتفجيرات التي شملت ميناء الفجيرة (في الامارات) وبعض المواقع الأخرى في شبه الجزيرة..
لكن الثورات أقوى من الأساطيل، فالشعوب أقوى من الاستعمار، سواء الفرنسي الذي كلف الجزائر مليون شهيد دفعها شعبها راضياً مرضياً من أجل التحرر واستعادة كرامته وحقه في بناء غده الأفضل..
كذلك فان شعب السودان الذي تحمل “البشير” بعصا المارشالية وهو يراقصها وتراقصه لمدة ثلاثين سنة طويلة، فانه يقيم ـ رجالاً ونساء وصبايا الفجر ـ في الشارع مطالباً باستعادة حقه في أن يحكم نفسه بنفسه، عبر ما أسقط من قاموس الأنظمة العربية، الى الارادة الشعبية والانتخابات، أي حكم الشعب بالشعب وليس بالعسكر..
ومؤكد أن شعب السودان قد شعر بالإهانة حين أوفدت السعودية والإمارات من يقدم الى “حكم العسكر” رشوة اعتبراها قرضاً بنحو مليار دولار… علماً بأن دول النفط مجتمعة لم تقدم لشعب السودان أية مساعدة من قبل، وان كانت تكتفي “بإكرام” المشير البشير كلما زارها، ببعض “الشرهات”، التي لا تعني إلا إهانة شعب السودان وتحقيره، عبر تصويره ـ عبر “رئيسه” المخلوع بأنه “يباع ويشترى”، والخير وفير، والريالات تتدفق كالنفط والغاز بأكثر من حاجة أصحاب السلطة وهم هم.. لشعب!
لقد كاد الشعب العربي ينسى علاقته الحميمة مع الثورات التي تملأ صفحات تاريخه الحديث الحافل بالانتفاضات الشعبية التي أكدت قدرته على تغيير الأنظمة الفاسدة والمفسدة، سواء عبر علاقتها بقوى الاستعمار، أم عبر دكتاتورية من حكم باسمها فأذل الشعب كما لم يذله أي محتل أجنبي..
ان ثورتي الشعبين العربيين في كل من الجزائر والسودان تعيدان الاعتبار الى هذه الأمة التي لا ترضى بالهوان والإذلال والدكتاتورية التي تعيد فتح أبواب البلاد أمام “الاستعمار الجديد” و”الاحتلال الاسرائيلي” المجتمعين ضد الأمة وحقها في أرضها وغدها الأفضل وقد دفعت ثمنهما الدماء المقدسة لشهدائها، وكذلك حقها في التقدم مع الكرامة للحاق بالعصر وصنع تاريخها بدمائها التي كتبت بها صفحات مضيئة في تاريخها غير البعيد.