يستحضر الوضع القائم في منطقة الخليج العربي، الآن، وقد بلغ ذروة الاحتدام بين الولايات المتحدة الاميركية والجمهورية الاسلامية في ايران، مشهداً قريباً مما واجهته مصر عبد الناصر في مثل هذه الايام من 26 تموز 1956 حين اعلن جمال عبد الناصر قراره التاريخي بتأميم قناة السويس، وإعادتها إلى ملكية مصر وسيادتها.. هذا مع اختلاف الظروف والادوار والرجال.
التشابه في الحصار الغربي الشديد الذي فرض على مصر عبد الناصر آنذاك والذي تطور في اتجاه العنف حتى عقد التحالف الجهنمي بين بريطانيا (العظمى آنذاك) وفرنسا التي كانت تحاول أن تستعيد امجادها الغابرة، لا سيما بعد تفجر ثورة المليون شهيد في الجزائر 1 تشرين الثاني (نوفمبر) 1954، والعدو الاسرائيلي الذي كان ينتظر مثل هذه “اللحظة التاريخية” للتخلص من ثورة التحرر العربية التي كان جمال عبد الناصر رمزها وقائدها.
لا ايران هي مصر طبعاً، ولا الامام الخميني او نائبه خامنئي هو جمال عبد الناصر، ولا الولايات المتحدة الاميركية هي بريطانيا + فرنسا.. لكن ثمة تطوراً استراتيجيا خطيراً حصل في الفترة الفاصلة بين تموز 1956 وتموز 2019، أبرز معطياته: سقوط المسافة (النظرية) التي كانت تفصل بين الولايات المتحدة الاميركية واسرائيل، حتى باتت واشنطن تعني تل ابيب والعكس صحيح، لا سيما في ما يتصل بالعرب (او ما تبقى منهم في خط الاعتراض على واقع الاذلال المهين).
بل أن الواقع يدل على العكس تماماً: فأكثرية الدول العربية، بدءاً بالممالك والسلطنة والامارات الخليجية، ليست مستقلة فعليا، لا سيما وانها مرتهنة لثرواتها (النفط والغاز) التي تستثمرها وتديرها شركات اميركية اصلاً، ثم أن هذا الواقع يفرض تبعية واضحة للقرار الاميركي… فالولايات المتحدة الاميركية شريكة اساسية، سواء بالاستخراج أو برعاية تسويق ما يفيض عن حاجتها، ثم انها “مستودع الاموال” التي تجنيها هذه الدول من ثرواتها الطبيعية، وهي تستثمر داخل هذه الاقطار ذاتها في “رعاية” مشاريع التنمية ومشاريع اعادة بناء “دول الرمال” هذه التي كانت تعيش حتى الامس، في القرون الوسطى: شركات المقاولات الكبرى فيها، او في بعض الدول الاوروبية الصديقة، هي التي تتولى اعمار الصحارى، وعلى قاعدة خطط تصنعها شركاتها ومكاتب الدراسات فيها، وهي تساعد في “رعاية” المؤسسات الامنية الاساسية (الجيش وقوى الامن والمخابرات)، ثم أن جامعاتها هي وبالتوجيه الرسمي ـ مقصد خريجي طلاب الدراسات العليا (الطب والهندسة والعلوم الخ)..
وبالتالي فان السلطة “تؤمرك” نخبها، وقواتها المسلحة، فضلاً عن رهن اقتصادها وخطط تطور عمرانها لبرامج مثل “المملكة 30″، وهو المشروع الذي تبناه ولي العهد الامير محمد بن سلمان، والذي يفترض به أن يكون القاعدة لإعادة بناء دولة ابناء عبد العزيز آل سعود التي قامت بحد السيف، وعاشت خارج التاريخ، حتى عهد قريب.
ولا شك أن ولي العهد، وبرعاية من ابيه الملك سلمان، يسعى لفتح نوافذ في مملكة الصمت والذهب ويجتهد لان يدفع بهذا المجتمع الذي ظل مغلقاً ومبعداً عن التقدم والتحضر واقتحام العصر بالعلم، خصوصاً وان امكانات دولته خرافية، وشعبه عومل حتى اليوم كرعية قاصرة تعيش في خدمة الاسرة المالكة: شبابا رهائن لدى “الحرس” ونساؤه في العتمة ورجاله رهن مطاردة “الخويان”..
وجاهل من ينكر أن مملكة السيف والذهب قد غدت “دولة شرعية” بغض النظر عن اسلوب اقامتها والملوك الجهلة الذين حكموها بحد السيف ولم يسمحوا حتى لأبنائهم بطلب العلم لبناء مستقبل أفضل واستعانوا بخبرات عربية من اقطار أخرى… ولكنها تتحرك الآن لاستدراك ما فاتها من اسباب التحضر للحاق بالعصر، فتخفف من “صلاحيات المطاوعة” الذين كانوا يطاردون الرجال في الشارع لأنهم يدخنون مثلاً، أما النساء فكان ممنوعاً عليهن الخروج من المنازل الا بصحبة “محرم”، فاذا ما لمحن “المطاوعة” يحاولن الاختفاء ولو بالدخول في الجدران.
على أن هذا كله لا يعني أن “المجال العام” قد فتح حقاً امام اهل البلاد: فالحرية لا تقتصر على السماح للمرأة بالخروج بالمنديل بدل الحجاب، والجلوس في المقهى، والذهاب إلى مهرجانات الغناء المنظمة والمتنقلة بين المناطق والجهات.
فأساس الديمقراطية الاول والأخير هو حرية الرأي والقول والعمل. والصمت المفروض بالقوة هو بمثابة “وأد” للشعوب ومصادرة لحقها في أن تكون هي مصدر السلطة، وهي صاحبة القرار في شؤون حياتها، لا تهبط عليها القرارات بالمظلة الملكية من علٍ فلا تملك لها رداً هي لو كانت تخالف ارادتها ومصالحها واسباب حياتها.
اننا نعيش في القرن الحادي والعشرين، وقد “قزمت” وسائل التواصل الجديدة العالم فجعلته، بالفعل، قرية واحدة.. ويعرف آخر فلاح في صعيد مصر، وأخر بدوي عند أطراف الربع الخالي ما يحدث في اربع رياح الارض لحظة حدوثه، ويسمع من الشروحات والتعليقات ما يجعله معنياً بهذا التطور العلمي ومستفيداً منها بشكل ما.
أما دولة الامارات العربية المتحدة التي تم تأسيسها بقرار بريطاني ـ اميركي في اوائل السبعينات من القرن الماضي، خلع الشيخ شخبوط “حاكمها الأول” الذي كان يحتفظ بدخل النفط، في اوائل ظهوره تحت فراشه ويرفض ايداعه في المصارف، فأتى بعده بأخيه الشيخ زايد، الذي عُرف فنهض بحكمته ببلاده لا سيما بعد تشكيل دولة تضم إلى ابو ظبي ست مشيخات أخرى تمتد من ساحل عمان حتى الحدود السعودية، مبعدة عن قطر والكويت.
ولقد تعاظمت الثروة النفطية مما مكن الدولة الجديدة برئيسها المسالم والساعي بالخير من احتلال موقع متقدم بين حكام الجزيرة والخليج، خصوصاً وقد بذل من الخير ما جعل في معظم العواصم العربية شوارع باسمه.
وحين رحل الشيخ زايد اصاب مرض لا شفاء منه نجله الاكبر (خليفة) فصار النجل الثاني الطموح والسياسي المحنك محمد بن زايد “قائداً” في منطقة الخليج، ثم تعزز هذا الدور بوصول الامير محمد بن سلمان إلى ولاية عهد ابيه الملك سلمان بعد خلع ولي العهد الاسبق الامير مقرن بن عبد العزيز، ثم ولي العهد الثاني الامير محمد بن نايف.. وهكذا نشأ حلف ثنائي بين “المحمدين” بطموح واحد الى لعب الدور القيادي ليس فقط في الجزيرة والخليج بل شمل بعض الدول العربية البعيدة (ليبيا، مع منافسة معلنة مع حاكم قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني الذي لا يقل عنهما طموحاً معززاً بثروة خرافية مصدرها الغاز والعلاقة المعلنة رسمياً منذ عهد ابيه الشيخ حمد مع العدو الاسرائيلي).
على أن قطر تتميز عن سائر دول الخليج بعلاقات مميزة وشراكة في الغاز مع إيران، مما عزز لديها الطموح بدور عربي، سرعان ما جمعت اليه إقدامها على الاعتراف بدولة العدو الاسرائيلي (على حساب شعب فلسطين، بل حقوق الامة العربية فيها).
وكذلك حاولت التدخل في بلاد عربية كثيرة، بينهما مصر، وليبيا بفوضى بعد القذافي، وانشأت مشاريع استثمارية (كما دولة الامارات) في بعض دول افريقيا السوداء، وتحالفت مع تركيا بثمن باهظ، وزايدت على سائر اقطار الخليج في استثنائية العلاقة مع الولايات المتحدة الاميركية، ودائماً بالثمن الباهظ.
نعود إلى ايران ودورها وطموحها إلى نفوذ واسع في المنطقة من حولها في ظل الفراغ السياسي والاحتياج الاقتصادي فيها، واستناداً إلى ماضي الامبراطورية، والى موقعها الاستراتيجي الحاكم.. لا سيما وان الانظمة المجاورة، ملكية واماراتية وجمهورية، لم تكن مغرية او قادرة ومؤهلة للتقدم إما لان انظمتها دكتاتورية او لان مواردها غير كافية، وإما لان الشعار الديني مع نجاح التجربة الايرانية كان جاذبا لشعوبها الطامحة إلى التقدم.
على أن ما عزز النفوذ الايراني في لبنان أن ثورة الخميني فيها قد رفعت، منذ يومها الاول شعار تحرير فلسطين، وأقدمت على طرد السفير الاسرائيلي منها وطاقم السفارة والخبراء الاسرائيليين (بالآلاف).. وسلمت كل ما له علاقة بإسرائيل إلى الراحل ياسر عرفات ومنظمة التحرير الفلسطينية، ودعمت “حزب الله” في مقاومته الاحتلال الاسرائيلي حتى اجلائه عن لبنان في العام 2000.
اليوم، وفي ظل الازمة المحتدمة بين ايران والولايات المتحدة هدأت دول الجزيرة والخليج غلواءها، وانتبهت إلى مصالحها الحيوية، فحاولت أن تحيد نفسها عن الصراع، حتى لا تكون هدفاً له.. وهذا امر جيد، فعند صراع الاقوياء الحكيم هو من يحفظ رأسه.
وليست مصادفة أن يخرج وزير الخارجية الاميركية على العالم بإعلان استعداده لزيارة إيران، اذا كانت مستعدة لاستقباله.
في الحروب بين الاقوياء يحفظ الذكي رأسه..
وعسى القادة العرب يحفظون رؤوسهم.. ورؤوسنا!.
تنشر بالتزامن مع جريدة “القدس” الفلسطينية