طلال سلمان

عن المشهد الإنتخابي وطرائفه الكثيرة..

لا يختلف »المشهد الانتخابي« في لبنان كثيرù عن »الصوَر الانتخابية« التي احتلت الجدران والأعمدة والأشجار ولوّثت الهواء وزادت الرطوبة فجعلت التنفس (والاختيار) صعبù على الناخبين المحاصرين.
لا »المُقاطع« موثوق ولا حجته، وإن وجيهة، مقبولة لأنها تصدر عن »مرفوض« أكثر منه »رافضù«.
ولا »المشارك« صاحب دور فعلي في صنع الغد، فبرنامجه في أغلب الحالات شخصه وولاؤه للسياسة المعتمدة: حضوره في المحليات باهت لا يتعدى الزفت وبعض الخدمات الخاصة، أما في الشأن المصيري فهو مجرد »صوت« إضافي، هذا إن لم يكن »صدى« قد يزيد في العدد ولكنه يظل أعجز من أن يضيف في »النوع«،
ومع أن جذور الانقسام سياسية، إلا أن ظواهرها وإعلاناتها والتعبيرات عنها تبدو وكأنها خارج السياسة:
كيف تكون انتخابات تلك التي تجري في بيئة غير سياسية، وبشعارات غير سياسية، وبكلمات تجيء من خارج السياسة بما هي طموح لتغيير المجتمع، اقتصادù وتربية وثقافة وقيمù وإنتاجù وتقدمù في اتجاه العصر؟!
كيف يستطيع المواطن التمييز بين مَن لا يعرفهم إلا من صورهم، أو من بعض تصريحاتهم الموسمية المفصلة على المقاس ؟
إن بعض المرشحين يتقدم من الناس معتذرù عن ماضيه،
والبعض الآخر يُقدِم على ترشيح نفسه مستندù إلى تقديره بأن الناس قد ندموا على مغامرتهم مع »الرموز« الذين وعدوهم بالتغيير ثم عجزوا عنه، فاندفعوا يقدمون أهل الماضي ليمثلوهم في مستقبلهم.
المؤسسات الحزبية حطام، لكن حطامها مفيد جدù إذ انه ينفع في ترميم »البيوتات السياسية« التقليدية و»العائلات العريقة«، و»دور الزعامة« التي احترفت السياسة حتى صارت بين حقوقها المشروعة: كلما غيَّب الموت سيدا قام سيد، وأُلبِس العباءة ليتصل الماضي بالمستقبل مصادرù الحاضر.
مَن يصدق أن هذا الحشد من المرشحين الحزبيين (الناجحين سلفù) له علاقة بعد بحزبه القديم الذي مات ولم يدفن، وتستخدم أشلاؤه المتهالكة الآن في تزيين اللعبة والندوة! للإيحاء بصلتها بالسياسة؟!
حزبيون قدامى ولا أحزاب جديدة أو أعضاء جدد في الحزب القديم،
وزيادة غير مبررة ومجافية للعقل في عدد النواب الحزبيين بينما توقفت الأحزاب (القديمة) عن النمو منذ عقدين أو ثلاثة، فلم ينتسب إليها فتى أو فتاة، بينما اندفع إلى جنة وزاراتها والادارات التي وضعت اليد عليها مئات من »المناصرين« طلبù لفوائد الحكم وليس إيمانù بعقيدة الحزب الذي كان.
والمؤسسات النقابية عناوين فخمة لتكايا وبقايا حركة تكاد تندثر في غياب المجتمع الصناعي واضمحلال الطبقة العاملة في مجتمع استهلاكي يقوم على الخدمات أولاً وأخيرù، أي على »الفرد« لا على »الجماعة«، وعلى »المبادرة الفردية« وليس على »النضال الطبقي«، والصراع بين أطراف الانتاج حول وسائل الانتاج.
* * *
لكم كان فخمù ذلك النقاش الدستوري حول قانون الانتخابات..
إنه الذروة التراجيدية في مسرحية كوميدية، أو العكس.
ومع التقدير للجهد الذي بذل من أجل تصحيح العيب في القانون المرتجل والمفصّل على المقاس، فإن كل ذلك النقاش لم يضف قطرة واحدة من السياسة إلى العملية الانتخابية.
إن اللبنانيين بأكثريتهم الساحقة مع الانتخابات.
الناس يريدون الانتخابات لأنها وعد غامض بالتغيير، ولو محدودù وقاصرù عن تلبية طموحاتهم،
إنها فرصة لإثبات حضورهم وتأكيد حقهم في المشاركة في القرار، ولو رمزيù.
ناهيك بأنها مناسبة للتعبير عن الأغراض والأحقاد، والمنافسات والمناكفات، وإلحاق الهزيمة بالخصوم (على مستوى القرية أو الحي!)
لكنها تظل خارج السياسة، بمعنى الوعد بالتغيير،
فها هو الحارم والمحروم،المهجِّر والمهجَّر في لائحة واحدة!
ها هو رأس المال ينزل إلى الساحة بحجم غير مألوف، وبقدرة على التأثير غير محدودة، وبقبول شعبي خارج على كل منطق، وبتحالفات نافرة مع رموز لبعض الحركات الشعبية والحزبية التي طالما »ناضلت« ضد »الطغمة المالية« وضد »التحالف الشيطاني بين الإقطاع ورأس المال«، كما كان يُقال في الزمن القديم!
إن رأس المال يقتحم، يتقدم، يحتل المواقع القيادية وسط تهليل »الجماهير الكادحة«، الخائبة آمالها بالذين حملوا رايات طموحاتها وتحدثوا باسم عذاباتها عقودù،
والقانون القديم يستوعب التحولات الجديدة: للطائفية السيادة وللمذهبية الصدارة،
ففي ظل الغرائز الطائفية المستثارة يمكن قلب المنطق تمامù، فتصير كرامة الطائفة أهم بما لا يقاس من حقوق المواطن (التي لم يتيسر له أن يمارسها أو يتعرّف عليها)،
وفي الصراع بين المذهبيات تتهاوى الديموقراطية أشلاء، ويصير المعبِّر عن الحساسية المذهبية هو القائد الشعبي الرقم واحد، وإلى جهنم العقائد والمبادئ والأفكار التي لا تطعم خبزù،
وهكذا تطل التحالفات من خارج السياسة (بما هي وعد بالتغيير) وعلى حسابها: الخصوم (نظريù) يتحالفون، والمتماثلون طبقيù واجتماعيù يتصارعون لحساب خصومهم..
تحالفات محصنة، ومحمية جدù، وممسوكة، حتى لتبدو كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضù: أبناء »العائلات العريقة« مع رموز رأس المال ممَّن باتوا في موقع القرار الآن، وعلى لائحتهم المباركة حفنة من أبناء الفلاحين وقدامى الحزبيين المخلوعة أنيابهم العقائدية والأظافر، وصغار الكسبة المبهورين بانفتاح أبواب »الجنة« فجأة أمامهم يحصدون جوائز »خيانتهم« لطبقاتهم بالجملة، جاهù ونفوذù ومالاً وشعبية عريضة.
لأول مرة في التاريخ يستطيع »العقائديون« تحقيق مثل هذه الأرباح. بعد اندثار العقيدة والمؤسسة الحزبية التي كانت تمنيهم بتحقيق الأحلام ولو بعد دهور من النضال!
* * *
الأكثرية الساحقة من اللبنانيين مع الانتخابات، برغم كل المطاعن والعيوب في القانون والممارسة واللوائح المحصنة.
إنهم يريدون أن يتعارفوا من جديد،
إنهم يريدون أن يتواصلوا ليعيدوا اكتشاف روابطهم وصلات الرحم وأحلامهم المشتركة.
إنهم يريدون أن يخرجوا نهائيù من حروبهم الصغيرة ليستشرفوا آفاقù مفتوحة خارج دائرة الغرائز الطائفية والعصبيات المذهبية والأحقاد الشخصية.
لا يهمهم مَن سينجح ومَن سيفشل،
يهمهم أن ينجحوا هم في أن يبدأوا، من جديد، الرحلة المضنية نحو تأكيد وجودهم فوق أرضهم، وحقوقهم كمواطنين في دولتهم، على ضعفها.
الانتخابات أهم من نتائجها،
لكن التغيير ما زال وراء الحلم، وخارج اللعبة الانتخابية بالتأكيد.

Exit mobile version