ما أشد الاختلاف بين الحوار الخصب المفتوح على مداه في القاهرة وسائر أنحاء مصر الذي يشارك فيه المصريون جميعاً على اختلاف انتماءاتهم وتوجهاتهم الفكرية والسياسية، وبين انقطاع الحوار بالرفض أو التعطيل بين اللبنانيين والعودة إلى التخاطب عبر المهرجانات المصنعة والمكلفة وبلغة التهديد والتشهير وتسفيه المقدس وإسقاط ما يجمع بين هؤلاء الرعايا ويجعلهم «شعباً» له ثوابته الواحدة ومصالحه الواحدة وحياته في الأرض الواحدة وحقه في مستقبل أفضل لأبنائه المعرّضين للتشوّه وانفصام الشخصية.
هناك، في ميدان التحرير، قلب القاهرة، تلاقى الشعب، بأطيافه جميعاً، البورجوازية والطبقة الوسطى والعمال والفلاحين والشباب المهدّد بضياع مستقبله، وتحرّكوا ككتلة واحدة متراصة ومترابطة، برغم التمايزات في الأفكار والمصالح فهتفوا: الشعب يريد إسقاط النظام… فلمّا عاند «الرئيس» الأبدي وكابر توجهت الجماهير نحو قصره فأجبرته على الهرب، وها هي تطالب بإعادته إلى القاهرة مخفوراً لمحاكمته على جرائمه ضد مصر، دولة ومؤسسات وموارد، وشعباً عاش حياته خائفاً وممنوعاً من الحلم بمستقبل أفضل.
هناك، في الميدان، وبقوة الإجماع الشعبي، تمّ إسقاط النظام من خلال كشف فضائحه وارتكاباته السياسية والأمنية والمالية، أي خيانته الأمانة الوطنية، ثم سعيه لتغطية جرائمه بمحاولة إشعال نار الفتنة الطائفية، وإطلاقه أجهزته الأمنية وعصابات «حزبه» للتخريب وإرهاب أهلهم، لعله يقلب الثورة إلى حرب أهلية تحمي استمراره في السلطة، وإلا فليعم الخراب، ولتهدم الدولة حتى لا يأخذها غيره، وبالذات هؤلاء الفتية الغاضبون.
وهنا يستخدم الميدان لحماية أبشع ما في النظام الطوائفي وأسوأ «إنجازاته»: أي تكريس الانقسام على قاعدة طائفية ومذهبية تحميها «الدول» وترعاها، وتمكّن الطبقة السياسية من استثمار الانشقاق بما يمنع توحّد الشعب حول أهدافه بل حقوقه الثابتة في أن تكون له دولة قادرة تحقق له الحد الأدنى من الرعاية وتمكّن لهويته الوطنية.
ما بين طرفة عين وانتباهتها تحوّل «الشريك» في حكومة الوفاق الوطني إلى «عدو مبين»، واستفاق رئيس تلك الحكومة وبعض الوزراء فيها إلى أنهم كانوا مكرهين أو مخدوعين أو مخدرين حين قبلوا بالشراكة متجاوزين الاختلاف في التوجهات السياسية.
خلال أربعين يوماً فقط تمّت صحوة أركان 14 آذار، وتمّ كشف الخديعة التي تمّ توثيقها في البيان الوزاري: انتبهوا فجأة إلى أن سقوط الحكومة على باب الرئيس الأميركي في واشنطن إنما كان بسبب «السلاح»! وكذلك العجز عن إنجاز الموازنة والتحقيق في فضائح هدر المال العام، والامتناع عن تسليح الجيش الوطني إلا عبر المساعدات الأميركية التي تبقيه أقرب إلى الشرطة بل أفقر لا يملك من السلاح ما يمكنه من مواجهة العدو الإسرائيلي إلا بمتانة انتمائه الوطني واستناده إلى حليف وطني مؤثر توفره المقاومة التي عرفت العدو بدقة وعبر المواجهة بالكفاءة والعلم والسلاح فضلاً عن الإيمان بالله وواجب حماية الأرض بدماء الشهداء.
أما الانتخابات النيابية التي أوصلت إلى أكثرية مكلفة (مليار دولار) فهي ديموقراطية فذة لم يستطع «السلاح» أن يمنع إنجازها.
[ [ [
لا تجوز المقارنة بين الميدان في القاهرة بالإنجاز التاريخي الذي تحقق فيه وعبر الوعي الباهر للحشد المليوني الذي رابط فيه، وبين المهرجان الفولكلوري المزركش بالأعلام الدالة على «هوية» المشاركين فيه، وكلهم أصحاب حق في التظاهر، وإعلان المواقف التي يرونها معبّرة عن إرادتهم، وفي الاعتراض على مواقف من يرونهم خصومهم السياسيين.
لكن بؤس الحياة السياسية في لبنان أن تحول الطبقة السياسية «الميدان» من ساحة تلاقٍ بين أبناء شعبه على الأهداف المشتركة التي توفر لهم أسباب الحياة الكريمة، إلى خطوط تماس أو إلى نقطة افتراق بين أصحاب المصلحة في «وطن» وفي «دولة»، بما يجعلهم على الدوام في حالة خوف من الانشقاق والتباعد وصولاً إلى حافة الفتنة، بينما رياح الثورة تجرف أنظمة الاستبداد من حولهم وتعيد الاعتبار إلى «الشعوب» وتؤكّد قدرتها على التغيير وعلى اختراق المستحيل من أجل تحقيق الحلم بغد أفضل!
وبؤس الحياة السياسية تحت قيادة هذه الطبقة السياسية بمختلف تلاوينها يتجلى في المقارنة بين ما تنجزه الشعوب العربية من حولنا متصلاً بالتحرّر من خوفها من أنظمة الاستبداد، بكل رعاتها من قوى الهيمنة الخارجية، والثبات في «الميدان» حتى إسقاطها… بينما يستخدم «الميدان» في لبنان لتثبيت هذا النظام الطوائفي محقر كرامة الإنسان، لاغي المواطنية فيه، المتنكّر لوحدة شعبه والعامل على تفتيتها باستمرار بالطائفية فإن قصرت عن المطلوب فنار المذهبية جاهزة لإحراق الوطن ودولته وشعبه حماية لنظامه الجبار.
كانت أهداف الحشد في «الميدان» بالقاهرة إسقاط حكم الطغيان الذي لم يتورّع خلال عهده الميمون عن التلويح بورقة الطائفية، ثم عمد زبانيته إلى استخدامها فعلاً، مع انتصار الثورة، لعله يحوّلها إلى فتنة، مع وعيه بخطورة هذه «اللعبة» على وحدة الوطن وشعبه.
لكن «الميدان» في القاهرة، باعتباره تجسيداً لإرادة الشعب بفئاته جميعاً، أسقط الفتنة، وألحقها بالطغيان بوصفها من استثماراته المجزية ربما بأكثر مما تدرّ الثروات التي نهبها من مال الشعب المصري وهي خلاصة عرق أجياله.
أما «الميدان» في بيروت فلطالما استخدم لتثبيت حكم الطبقة السياسية التي تعتبر الطائفية أهم استثماراتها وأعظمها إدراراً للأرباح الحرام: أليس بحجارتها بُنيت قصور أصحاب الفخامة والدولة والمعالي وأصحاب الغبطة والسماحة وسائر الألقاب التي تكاد تشكّل «عازلاً» بين حامليها وبين رعاياهم، ثم بين الرعايا أنفسهم إذ تقسمهم إلى ما يشبه «الجاليات» المتعايشة على أرض واحدة، تعزل كلاً منها عن الأخرى جبال من الأحقاد والخصومة غير المبرّرة إلا بتصوير الواحدة لاغية للأخرى.
[ [ [
في كل مرة تلجأ فيه الطبقة السياسية إلى الميدان يضع «الرعايا» أيديهم على قلوبهم: سيكون المهرجان الجديد تثبيتاً للانقسام وتعزيزاً لدواعي الافتراق في الأهداف… والوطن صغير، أضيق من أن يتسع لكل هذه الأحقاد والأغراض والأطماع، وأبأس من أن يدفع كلفة الاستثمار في مشروع الفتنة التي كانت دائماً وما تزال جاهزة لأن تلبي غب الطلب، سواء من أجل رئاسة أو من أجل حصة في حكومة، أو لتغطية انحراف عن مصلحة الوطن وأهله الممنوعين بالأمر من أن يصيروا شعباً.
ربما لهذا علينا التواضع قليلاً في أحلامنا ونحن نشهد حالة النهوض بالثورة في مشارق الأرض العربية ومغاربها. فرعايا الطوائف والمذاهب في لبنان أبأس حالاً من أن يقدموا على الثورة رفضاً لواقع انقسامهم المزري… وميادينهم تستخدم ضدهم وليس من أجلهم: إنها تثبِّت افتراق بعضهم عن البعض الآخر، تحرّضهم وتستنفرهم وتأتي بهم إلى الميدان محمولين، ثم تصرفهم مهتاجين لتنصرف إلى متابعة لعبة السلطة وقد عززت «رصيدها الشعبي» في مواجهة الآخر، ولكل جولة شعارها المبتكر، ولا يهم إن كان يصب في مصلحة الأميركي أو بعض الأنظمة العربية التي تهتم بتوطيد استقرارها بإشغال الآخرين بأنفسهم، أو حتى في مصلحة العدو الإسرائيلي… والـكل حلفاء في هذا المجال.
ومن أسف أن الصراع على «الميدان» وفيه لا ينتج في لبنان حكماً قادراً على الإنجاز… وهذا أبأس شعور يجتاح اللبنانيين وهم يشاركون بقلوبهم وأفكارهم وتمنياتهم إخوانهم ممّن انتصرت ثوراتهم، في تونس ثم في مصر المحروسة، وغداً في أقطار أخرى عديدة لم يضربها السرطان الطائفي وهو أخطر من حكم الطغيان في أي زمان وأي مكان.