عجيب هذا اللبنان الذي استولد كيانه السياسي على دفعات، وبداية وقبل “الجمهورية” تحت عنوان الامارة المحصورة والمحاصرة بالوجود العثماني الذي حكم الارض العربية، مغرباً ومشرقاً، لأربعة عقود طويلة ومريرة.
أي ان هذه “الامارة” لم تكن، في أي يوم مستقلة، بالمعنى المعروف لكلمة “الاستقلال”، فهي كانت دائماً في ظل “السلطنة” مع محاولات فرنسية وبريطانية ومصرية في فترة حكم محمد علي في القاهرة ثم اميركية، قبل ان يستولد الكيان الاسرائيلي على ارض فلسطين بتواطؤ دولي شمل الشرق الشيوعي، آنذاك، والغرب البريطاني ثم الاميركي، والخيانات العربية، مشرقاً ومغرباً.
بعد الحرب العالمية الاولى، وفي العام 1920، تحديداً، تم استيلاد هذا الكيان القائم بضم “الاقضية الاربعة”، أي البقاع والشمال والجنوب وبيروت (وقد كانت ولايات عثمانية) الى “متصرفية جبل لبنان”، التي كان استولدها الاجنبي بعد سلسلة من المذابح المنظمة، بين الدروز (1820 ـ 1840 ـ 1860) الذين كانوا حكاماً للجبل قبلها ـ والمسيحيين الذين سبقوا الى معرفة الغرب، وجاءتهم البعثات التعليمية (اليسوعية، الفرنسية) والاميركية (البروتستانت)…
..ثم كانت الحرب العالمية الثانية بمجرياتها التي غيرت في خرائط الدول ، فقسمت دولاً (المانيا، مثلا) واستولدت دولاً جديدة (يوغسلافيا مثلا)، كما مهدت لاستيلاد اسرائيل الصهيونية على ارض فلسطين العربية، في ظلال هزيمة عربية مهينة.
ذلك بات الآن في ذمة التاريخ.. لكن “صناع التاريخ”، أي الدول العظمى، الذين استولدوا هذا “الكيان” سرعان ما حولوه الى “جمهورية” تحت الانتداب الفرنسي… وبعد هزيمة فرنسا في الحرب العالمية الثانية جاء الجيش البريطاني مسانداً لذلك الانتداب (بشخص الجنرال ديغول).. ومن ثم تم استيلاد الجمهورية اللبنانية بصيغتها الراهنة.. وبطبقتها السياسية التي حكمت في ظل فرنسا (وبريطانيا) في السنوات الاولى “الجمهورية اللبنانية المستقلة”..
لكن هذه الجمهورية التي استولدت قيصريا، حفظت مقاعد الدرجة الاولى لحكام الماضي من الموارنة والدروز.. فكان رئيس الجمهورية (الماروني) ملكاً متوجاً بصلاحيات مطلقة، ورئيس الحكومة (السني) باشكاتب، اما رئيس المجلس النيابي (الشيعي) فمهمته المصادقة على القوانين التي يعود اقرارها مبرمة (لفخامة الرئيس)..
لماذا هذه الاستعادة المتعجلة لتاريخ “الكيان اللبناني” و”مكوناته”؟
لان “حادثة قبرشمون ـ الفساقين” بتداعياتها الامنية والسياسية، خصوصا وان ثمة من يخرج الاشتباك الذي حصل على الطريق بين عاليه ـ حيث كان ينتظر الوزير ـ الملك جبران باسيل، ان يأتيه وفد الوزير المضيف (اليزبكي ـ صالح الغريب)، من دائرة “الحادث” الى ما هو اكبر وأخطر وافظع، مضيفاً عليه دلالات سياسية وطائفية ومناطقية، تُخرج سائر اللبنانيين من دائرته لتحصره بين الدروز والمسيحيين.. مما يرفع حدة الخطاب الجبلي ـ الكياني ـ الاميري، بينما يتصرف سائر المسؤولين (من الطوائف الاخرى، وبالذات السنة والشيعة) كأنهم مشايخ صلح بين الجيران، ويحاولون اطفاء الفتنة قبل ان تمتد فتحرق الكيان وأهله.
ان الخطاب الجبلي (الدرزي ـ الماروني) يلعلع في الاجواء..
تتساقط الوساطات فينسحب منها رئيس المجلس النيابي بعد ما جرب كل براعته في ابتداع الحلول الوسط.. ويهرب رئيس الحكومة بعدما اتهمه البعض بالانحياز للطرف الجنبلاطي وتصفية متأخرة لحساب شديد التعقيد مع وزير الخارجية جبران باسيل الذي يصر على مشاركته صلاحياته.
اما سائر المناطق وأهلها، خارج المتصرفية، أي الشمال والجنوب والبقاع والعاصمة بيروت، فعليها ان تنتظر نتائج الحرب القيسية ـ اليمنية او الدرزية ـ المارونية، كما في الزمن القديم..
مع ان مرور الزمن قد اسقط من ذاكرة اللبنانيين الآخرين الامارة والمتصرفية والانتداب الفرنسي… وهم، اللبنانيون، مهددون الآن بان يسقطوا ايضا زمنهم الحالي.. مع ان لا مكان لهم في ذلك الماضي المجيد الذي يدرسونه لأبنائهم مع وعيهم بأنه… مزور، ومفتعل، ومن صنع الاجنبي ونهازي الفرص من الذين تعاونوا معه فحكموا باسم “الاستقلال”.
الطريف أن “قلعة الاستقلال” في بشامون غير بعيدة عن موقع الاشتباك الذي يهدد “الكيان” الآن..