مصادفة قدرية أن تشهد ثلاث دول عربية حملات انتخابية، رئاسية أو نيابية، في تزامن ملفت، وهي: مصر، والعراق، ولبنان.
أما في مصر فالاستفتاء على المرشح الأوحد يلغي الديمقراطية وحق الرأي والمواطن معاً،
وأما في العراق فان السرطان الطائفي الذي ضرب أرض الرافدين منذ الانتداب البريطاني ثم في زمن صدام حسين، ثم في ظل الاحتلال الأميركي، يجعل الانتخاب حلماً، أما الديمقراطية فهي أبعد من الحلم، فالطائفية تلغي الديمقراطية حكماً (وشعباً).
وأما في لبنان الذي أطنب الشعراء في التغزل بجمال طبيعته فان السرطان الطائفي يفتك فتكاً بكل ما له علاقة بحرية الرأي والموقف والقرار المستقل الذي يصوغه الضمير لا المصلحة.
على هذا يمكن القول، براحة ضمير، ان لا انتخابات، ولا حرية، ولا حق في الاختيار في أي بلد من هذه البلدان العربية الثلاثة..
لا تسل عن الباقي من الأقطار العربية، فهناك بلاد غارقة في دماء أهلها بسبب الحرب فيها وعليها، كسوريا واليمن، وبلاد أخرى أزيلت عن الخريطة، مثل ليبيا، بسبب التنازع على وراثة حكم القذافي فيها.. وبين المتنافسين دول عظمى كالإمارات وقطر، ودول عادية مثل الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا وإيطاليا ذات التاريخ الاستعماري المشرف إذ “حررت” تلك البلاد التي معظم أرضها صحراء من حوالى نصف أهلها الذين قاتلوا المستعمر بشراسة قل نظيرها تحت قيادة بطلها العظيم عمر المختار.
على هذا يمكن، هنا، تجاوز الحديث عن الديمقراطية والاختيار الحر، سواء للنواب أو الرؤساء الذين غالباً ما يمسحون الفروق بين ممالك أصحاب الجلالة وإمارات أصحاب السمو وجمهوريات أصحاب الفخامة الرؤساء.
.. وفي لبنان الذي يعتبر “النموذج العربي” للديمقراطية الغربية، فقد تعذر التمديد للرئيس الأول بعد الحرب الأهلية فكان التمديد لتلك الحرب، أما الرئيس الذي جاء بعده (الياس الهراوي) فقد تجاوز ولايته التي من ست سنوات بثلاث إضافية، وكذلك فعل الرئيس التالي (اميل لحود) فقد حكم لتسع سنوات وترك السدة خالية..
ثم جاء رئيس تعذر عليه التمديد (ميشال سليمان) فترك موقع الرئاسة فارغاً حتى أمكن التوافق على ملء الشغور بالرئيس الحالي.
لكأن ثمة عداء بين الجمهوريات العربية والديمقراطية..
فالرئيس المصري السابق، حسني مبارك حكم لثلاثين سنة، وصدام حسين حكم العراق لثلاثين سنة ايضاً، مرة بالإنابة والمدة الاعظم بالإصالة، وعلى عبدالله صالح، لمدة اطول من ذلك، ولكنه لم يقارب العهد المفتوح لمعمر القذافي حتى مقتله بعد اكثر من اربعين عاماً من سلطة القائد الفرد.
كل “رئيس” يتخيل نفسه ملكاً، فيرفض الاعتراف بمدة “الولاية”، ويسعى جهده لتجديدها او تمديدها، ملحقاً بشعبه اهانة لا تُغتفر.
ينسى “الرئيس” انه “منتخب”، وانه في منصبه بإرادة الشعب وليس “رعيته”، وانه “انسان” وكل نفس ذائقة الموت وليس بين البشر مخلدون، ويصر على البقاء فوق مقعده السامي حتى توافيه المنية.
وحدهم رعايا الممالك والامارات المذهبة مرتاحون من هم “التغيير”، فـ”طويل العمر” يحكم ما يعطيه الله من عمر، فاذا ما غيبه الموت جاء الى السدة ابنه (ولو مريضا او معاقاً) وحكم ـ مباشرة او بالواسطة ـ حتى يقضي الله امراً كان مفعولاً.
في الممالك والامارات العربية تُعاد عقارب الزمن الى الوراء، الى ما قبل ابتداع النظام الجمهوري بالثورات. ولقد اعطى الله حكام هذه البلاد ما يستطيعون به ومعه ان يهزموا هذا النظام الطارئ على الحياة العامة وان يستعيدوا ـ بالذهب ـ عصر الخلفاء (غير الراشدين) فيحكموا طوال اعمارهم ثم يورثون الحكم ـ ومعه الذهب ـ لأبنائهم واحفادهم الذين قد يصطرعون ولكنهم اعقل من ان يدمروا العرش (قطر، مثالاً، او الامارات) او السعودية في السنوات الاخيرة للملك فهد.. أي قبل وصول الاحفاد ممثلين بالأمير محمد بن سلمان.
ان “العرب”، بملايينهم التي تزيد على أربعمائة، لا يختارون حكامهم… واذا كان ذلك مفهوماً في النظام الملكي فانه غير مفهوم وغير مقبول في النظام الجمهوري.. وكثير من الرؤساء، الراحلين او الاحياء، حكموا مدداً اطول من العديد من الملوك والامراء الوارثين عروشهم عن الاسرة الحاكمة.. بالسيف او بالذهب او بكليهما.
لقد دمرت الانقلابات العسكرية البلاد العربية.. واذا كان بعضها قد وجد مبرراته في الحكم الملكي الفاسد، فان معظم قادة هذه الانقلابات قد جاء بمن تفوق في فساده وفي تخريبه البلاد على الاستعمار القديم وعلى حكم الطغيان واستقدم الاستعمار الجديد (الاميركي ـ الاسرائيلي) الى البلاد بذريعة التقدم ودخول العصر.
وواضح ان الانقلاب العسكري الاول الذي قد يجد تبريره في تعطيل العمل السياسي بالقهر والقمع، يستولد انقلاباً ثانيا وثالثا الخ، بل ان الانقلابيين سرعان ما يشرعون الغاء الحياة السياسية ويرون انهم لا بديل منهم ولا غنى عنهم، في انتظار ان “يفهم” الشعب واجباته، وان “يتعلم” السياسة، وان “يعرف” كيف يحكم نفسه بنفسه، وهذه مهمة صعبة قد تستغرق اجيالاً.
واذا ما أخذنا نموذج مصر، او سوريا، او العراق، او حتى اليمن، فضلاً عن الجزائر، فان كلاً من تلك البلاد كانت ارقى وأغنى وشعبها اكثر ابداعاً واكثر استعداداً للتعب وزيادة الانتاج من اجل تقدم بلاده، مما هو عليه اليوم..
بل ان تلك الشعوب كانت تسعى وتعمل وتجتهد وتتعب للنهوض ببلادها، مؤكدة ايمانها بأرضها وتاريخها وهويتها التي تتشرف بحملها..
أما اليوم فان النخبة من تلك الشعوب تقف امام ابواب السفارات طالبة “فيزا” للهجرة، او انها قد استقرت في المغتربات تبيع عرق جبينها لبلاد اجنبية، بينما بلادها التي قد تحتاج مثل تلك الخبرات تفتح ابوابها للخبرات الاجنبية ـ التي كثيراً ما تكون وطنية بجنسيات اجنبية مستحدثة او طارئة ـ مما يعرضها للمهانة مرتين!
“نحن الشباب لنا الغد، ومجده المخلد.. نحن الشباب..”
هيا، اذن، تقدم لتهنئة عبد الفتاح السيسي بتغييب مصر لكي يبقى رئيساً.. بلا منافس!
تنشر بالتزامن مع السفير العربي