طلال سلمان

عن الأهداف السياسية للفضيحة»اليابانية«!

هل استُدرج لبنان أم أنه ورّط نفسه في عملية انتحارية على طريقة »الهيراكيري« اليابانية الشهيرة، ولحساب مَن؟! ولأي هدف؟ وبأي ثمن؟!
إن التفاصيل البوليسية المثيرة تتوارى الآن مخلية المسرح للأسئلة المقلقة حول المسؤوليات والمسؤولين عن هذه الفضيحة المدوية، التي ستكلّف لبنان، ومعه سوريا، الكثير، في السمعة الدولية كما في المصالح، وفي الأخلاق كما في السياسة، وفي الاقتصاد كما في الأمن.
وأن تكون القضية قد غدت بين يدي القضاء، وله الآن وحده، أن يقول فيها الكلمة الفصل، فهذا لا يغطي إلا جانباً واحداً منها هو الجانب الجنائي أو البوليسي أو الأمني عموماً،
أما الملف السياسي فلن يغلق بهذه السرعة، ولسوف تتوالى التداعيات المكلفة، خصوصاً بعدما سارعت واشنطن مباشرة كما عبر سفيرها في بيروت إلى »تدويل« هذه الفضيحة، وباشرت محاكمة أخرى لحقبة كاملة من تاريخ العمل الثوري العربي (والأممي)، ستكون إسرائيل هي المستفيد الأول منها لأن كل مَن قاومها في الماضي والحاضر وكل مَن تصدى أو فكّر بالتصدي لمخططاتها الاستيطانية والتوسعية، سيحاكم الآن ليس فقط على الفعل، بل على النوايا، وليس على ما كان قد قام به من أعمال وعلى ما كان سيقوم به غداً، لو أمكنه ذلك.
الآن، لم يعد ممكناً تبسيط فضيحة »اليابانيين« في لبنان بحيث تبقى حكاية بوليسية مثيرة بطلها ضابط مهووس في جهاز أمني مرتجل ما زال يعامل وكأنه »ولد غير شرعي« للسلطة القائمة تتحمله كارهة وتنكره قبل صياح الديك، وتصوره غالباً وكأنه »فاتح لحسابه« أو خارج نطاق الانضباط العام… وهذه ذريعة مفيدة في حالات كثيرة.
بالمقابل بات ممكناً تجسيم هذه الفضيحة بحيث يمكن استخدامها لتأديب لبنان (وسوريا)، وبمفعول رجعي، على مقاطعتها قمة شرم الشيخ الشهيرة التي أريد بها أسباغ الحماية الدولية (والعربية أساساً) على إسرائيل، كياناً ومجتمعاً وجيشاً وقيادة سياسية، بحيث يبدو أي فدائي أو »استشهادي« أو مقاوم عموماً، وكأنه يتحدى الإرادة الدولية ويعتدي على أمن العالم ونظامه الجديد جميعاً.
إنها أخطر فضيحة شهدها لبنان، وهي فضيحة سياسية من قبل أن تكون فضيحة أمنية.
وها هي محاولات استثمارها تتبدى مكشوفة باستهدافاتها السياسية التي تصيب مع لبنان سوريا والفلسطينيين المعارضين (لعرفات) اللائذين بها، وكل مَن قاتل معهم ذات يوم ضد الاحتلال الإسرائيلي، في لحظة سياسية دقيقة بالنسبة لهؤلاء جميعاً.
هذا إذا ما جرى غض الطرف عن الجانب الأخلاقي في هذه الفضيحة، حيث يظهر »العرب« عموما ليس فقط بمظهر ناكري الجميل، بل يدمغهم بالخسة والنذالة و»بيع« جثث أصدقائهم ومن آمن بعدالة قضاياهم وناضل معهم من أجل حقهم في أرضهم، ذات يوم، بحفنة من »الينّات« اليابانية!
إن »الهجوم« الدولي على القضاء اللبناني والذي سيجبر مدعي عام التمييز على التفرغ اليوم لاستقبال مبعوثين أميركيين ويابانيين وهولنديين (؟!) لاستيضاحه حقيقة القبض على جثة »الجيش الأحمر« يكشف بعض الأبعاد الخطيرة لهذه الفضيحة التي بدأت أمنية بعصابة اتهم أفرادها بأن لهم صلات بأعمال تزوير عملات أجنبية وتفجيرات في بيروت ودمشق (؟!).
* * *
ومن دون الرغبة في إغراق الناس في تفاصيل باتت معروفة، فلا بد من استعادة أبرز محطات »الفضيحة« بالوقائع كما تقدمها »الرواية الرسمية«..
تقول الرواية الرسمية المعتمدة حتى إشعار آخر: إن الضابط المهووس، إياه، كان قد أقام، ومنذ فترة، علاقات غير واضحة الأفق مع »يابانيين«، سرعان ما تبين أنهم يعملون في جهاز أمني ياباني و»يستقصون« عن عناصر »الجيش الياباني الأحمر« الذين عملوا لفترة مع بعض التنظيمات الفلسطينية، والذين ربما أفادوا من فترات الفوضى والحروب لترتيب أمور إقامتهم في لبنان، بصيغة أو بأخرى.
تضيف الرواية إن هذا الضابط المهووس كُلِّف (رسمياً؟) أو كلّف نفسه بالذهاب إلى اليابان في مهمة رسمية، قبل بضعة شهور، فأمضى في ضيافة جهازها الأمني حوالى الشهر، فقال ما يعرفه أو ما كان اتصل بعلمه حول »متقاعدي« الجيش الأحمر المتبقين في »خيمة فلسطينية« في بعض أنحاء لبنان.
استناداً إلى ما سمعه المسؤولون في طوكيو، وهو قد عزز ما كان تجمع لديهم من استقصاءات، ومن مصادر إسرائيلية على وجه الخصوص، كتبت الحكومة اليابانية تستوضح السلطة في بيروت وتستوثق منها،
… وحين ألقي القبض على العصابة (متعددة الجنسيات) المتهمة ببعض أعمال التزوير والتفجير، تبلغت طوكيو بالأمر قبل القيادة السياسية في بيروت، وهذا ما يفسر صدور »الأخبار« الأولى عبر وكالة الأنباء اليابانية، و»مبادرة« رئيس الحكومة اليابانية الى إعلان »الاكتشاف التاريخي« قبل أي مسؤول لبناني، مما أحرج الدبلوماسية اللبنانية واضطرها إلى إيراد إشارة سريعة إلى الموضوع، بطريقة مرتجلة وغير مدروسة.
كان طبيعياً، في البداية، ألا يعترض أي مسؤول على توقيف من تساق ضده اتهامات بتزوير العملات وجوازات السفر وباقتناء المتفجرات والأسلحة، مع ايحاءات بعلاقة ما لهذه الشبكة أو بعض عناصرها بالتفجيرات التي دبرت في بعض انحاء لبنان (طبرجا خاصة)، وكذلك حادث تفجير حافلة الركاب السورية في حي البرامكة بدمشق.
بعد التوقيف الاحترازي، والتصريحات الرسمية اليابانية التي واكبته(!!) بدأت تتكشف الحقائق حول هوية هؤلاء الذين اعتقلوا… وانفجرت حكاية »الجيش الاحمر« بتفاصيلها الغنية، واستعيدت حكاية العملية الفدائية التي نفذها بعض عناصر هذا التنظيم، الذي كان مرتبطاً بعلاقة نضالية مع قيادة الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، في مطار اللد بفلسطين المحتلة الخ..
للتذكير هنا فقط لا بد من الاشارة الى ان اسرائيل رفضت تسليم اليابانيين الذين نفذوا تلك العملية، ولم ينكروا اقدامهم عليها، واصرت على محاكمتهم امام محاكمها والحكم عليهم وفق قانونها..
وللتذكير فقط لا بد من الاشارة الى ان السجانين الاسرائيليين قد فرضوا على »بطل« تلك العملية، ان يزحف راكعا وان يعوي كالكلب، لكي يقدموا اليه الطعام، وبعد اثني عشر عاماً من الاذلال داخل السجن كان قد بدأ يعوي فعلا طلباً للاكل..
المهم ان الفضيحة فجرت من طوكيو في بيروت، لتصيب شظاياها المسمومة لبنان كله وسوريا والتنظيمات الفلسطينية اللائذة بها، والتي تعيش الان حالة من القلق والاضطراب وافتقاد الوضوح بالنسبة للمستقبل بعد كل ما اصاب القضية الفلسطينية على يدي قيادة عرفات وسلطته القائمة الان تحت مظلة الاحتلال الاسرائيلي.
كانت طوكيو، برئيس حكومتها ووزير خارجيتها واجهزة مخابراتها ووكالة انبائها وصحفها القوية وبعثاتها الاعلامية المتتالية، هي المصدر الاهم للاخبار حول الفضيحة في بيروت.
وكانت بيروت مكبر الصوت للاتهامات جميعاً، فيتردد صداها في العالم اجمع، مع استعادة »كاريكاتورية« بل ممسوخة لوقائع التاريخ، واعادة محاكمتها بمفعول رجعي، ووفق قانون التحولات التي جعلت »الثورة«، فكراً او ممارسة، من المحرمات.
***
الحساب الداخلي مرجأ.. وبرغم كل شيء فليست الصحف هي ساحته الفضلى، لا سيما في هذه اللحظة الدقيقة، وتحت عيون القوى الدولية المتربصة بكل من يقاوم الاحتلال المباشر او الهيمنة السياسية لاتهامه بالارهاب..
الاخطر والاجدى هو التصدي لهذه الحملة الشرسة التي اتخذت من هذه المجموعة من »الثوار المتقاعدين«، والذين قاتلوا ذات يوم من اجل ما آمنو به، وسيلة لمحاسبة اللبنانيين والسوريين والفلسطينيين على مقاومتهم الاحتلال الاسرائيلي، وصمودهم في وجه الذين ارادوا قهر ارادتهم والهيمنة على مصيرهم.
واليابان في هذا الامر »اميركية« تماماً،
ثم انها تتحرك في »نقطة تقاطع« مع اسرائيل، امنياً وسياسياً.
ولعل تصريحات السفير الاميركي في بيروت تؤكد كم هي اميركية هذه الحماسة اليابانية للامر، حتى ان وكالة الانباء اليابانية الرسمية تبرعت بنشر بيان من الجيش الاحمر (المطارد) يؤكد فيه انتماء الموقوفين في بيروت الى صفوفه!!
ان طوكيو تعرف قطعاً ان هؤلاء الذين »كانوا« في الجيش الاحمر ذات يوم لم يعودوا يهددون امنها او مصالحها… وانه لو صح ان بعضهم في لبنان فعلا، فليس الا كافراد معزولين و»منبوذين« يتلطون في مكان قصي، حيث يمكنهم ان يمضوا شيخوختهم بهدوء،
ان الاميركيين هم الذين يحاكمون لبنان، الان، وبمفعول رجعي، ويحكمونه بمفعول مستقبلي فيستمرون في فرض الحظر على سفر رعاياهم اليه، خوفاً عليهم من »الاهارب« فيه..
.. والاسرائيليون يقولون كل يوم ان لبنان هو ساحة التصفيات ومنطلق الارهاب، اي المقاومة ويطالبون سلطته بضرب »حزب الله« وتفكيكه، واجتثاث مختلف انواع المقاومة ضد احتلالها، فاذا ما رفضت بيروت مشروع »لبنان اولا«، انطلقوا الى توجيه الاتهام بالارهاب، مجدداً، الى سوريا، وحاولوا الوقيعة بينها وبين لبنان.
الحساب الداخلي مرجأ، ولكن لا يجوز ان يقتصر على اعطاء اجازة ادارية للضابط المهووس، واحالة الامر كله الى القضاء على طريقة »اذهب انت وربك فقاتلا«.
وبغض النظر عن طبيعة الحساب الداخلي فلا بد من التصدي لهذه الحملة الارهابية الشرسة ضد لبنان وسوريا والمعارضة الفلسطينية وكل من فكر او عمل مع مقاومة الاحتلال الاسرائيلي،
لعل التكفير عن الخطأ يكون في التصدي للحملة التي كشفت الاغراض السياسية للفضيحة الامنية.
وبعد ذلك، وربما عبر ذلك، يكون الحساب الداخلي قد حقق هدفه.

Exit mobile version