دماء. دماء. دماء. كثير من الدماء العربية تكاد تغطي مجمل الأرض العربية، بمشرقها، أساساً، ثم مغربها، وكذلك بأقطارها الأفريقية بدءاً بالسودان المشلّع حتى لم تعد تعرف له حدود واضحة وانتهاء بالصومال الذي نحاول أن ننساه فلا ينسانا، خصوصاً وقد بات يذكر بأحواله عبر القرصنة البحرية التي استولدتها حروبه الأهلية المفتوحة أبد الدهر.
دماء. دماء. دماء. حيثما التفتنا تطالعنا جثث القتلى والبيوت المحروقة والمؤسسات المنسوفة وهي بالكاد قد اكتمل بناؤها. بل قل: الأوطان المهددة بالاحتراق والاندثار!
لا أخبار فعلية إلا عن حروب أهلية قائمة، أو مشاريع حروب أهلية تطل ألسنة نيرانها منذرة بإحراق الأرض العربية جميعاً ومعها الحاضر تاركة للغير أن يصطنع لنا مستقبلنا… المشرق!
قبل ثلاثة أجيال أو أربعة، كان العرب يبذلون دماءهم رخيصة في ما بين المحيط والخليج من أجل التحرر بطرد الاستعمار لإقامة دولهم المستقلة تمهيداً لبناء وحدتهم أو اتحادهم أو اتحاداتهم المتكاملة والتي يمكن أن تكون الطريق إلى غدهم الأفضل.
اليوم تسيل الدماء العربية رخيصة في ما بين المحيط والخليج في حروب أهلية وصراعات عبثية على السلطة تدمر ما أمكن بناؤه في مرحلة الاستقلال، وتستدعي قوى الاستعمار، قديمه والجديد، لتعود إلى حيث كانت، وحتى إلى حيث لم تكن إذا ما تذكرنا الحرب المستعرة في أقاصي اليمن السعيد (صعدة!..).
قديماً، هبّ العرب بجيوشهم (تحت التأسيس) تنقصها الخبرة والسلاح والمعرفة بالعدو، ومتطوعيهم المتسارعين بالحماسة إلى نجدة أهلهم في فلسطين ومحاولة منع المشروع الإسرائيلي من أن يقيم «دولة اليهود في العالم» على الأرض المقدسة التي توارثها الأبناء عن الأجداد والأجداد عن أجدادهم، فعمروها وخضروها وجعلوها نموذجاً لقدرتهم على بناء وطنهم برغم الاحتلال البريطاني عليهم مع الإسرائيليين وحلفائهم غرباً وشرقاً.
اليوم يدير العرب وجوههم إلى الناحية الأخرى، تاركين الفلسطينيين العزّل، تقريباً، والمنقسمين على أنفسهم، والمنقسمين عبر العرب ومعهم، وعبر الأجنبي ومعه، وعبر الاحتلال الإسرائيلي وبقوة فرضه، في مواجهة أقوى قوة سياسية ـ اقتصادية ـ عسكرية معززة بإسناد غير محدود من أعظم دول العالم وأغناها.
الدماء تغطي خريطة الوطن العربي جميعها، بينما الاحتلال ـ إسرائيلياً بالأساس، ومن ثم أميركياً ـ يغدو مرجعية عظمى للعرب: يرجعون إليه ليقدم لهم الحلول، بعدما أقروا بعجزهم المطلق ليس فقط عن المواجهة، لحماية المستقبل، بل حتى عن حماية أنظمتهم التي إن هي سقطت غرقوا في بحور من دمائهم لأن بديلها الوحيد هو: الحرب الأهلية!
لم يعد الاحتلال الإسرائيلي، بكل مشاريع توسعه التي تلتهم الأرض الفلسطينية على مدار الساعة، هو الهم الأول عند الفلسطينيين بل احتل الصراع في ما بينهم على سلطة متهالكة وتحت الأسر، سواء في الضفة الغربية أو في غزة، مركز الصدارة في اهتماماتهم… وصارت إسرائيل «مرجعية» شبه شرعية في شؤون حياتهم، فإذا ما أسقطت «الالتزامات» التي لم تكن تنوي تنفيذها في أي يوم، لجأوا إلى من كانوا يعتبرونه ـ عن حق ـ المسؤول الأعظم عن نكبتهم، ومصدر الدعم الأخطر لعدوهم: الإدارة الأميركية.
… وصار العرب «وسطاء» لدى واشنطن، يطاردونها بمبادراتهم العرجاء، ثم يقبلون منها أن تقرر لهم سلوكهم إزاء إسرائيل وليس إزاء الفلسطينيين، شعباً ووطناً مضيعاً وقضية مقدسة!
أمس، ارتاح العرب، فقد تولى الفلسطينيون أنفسهم شطب كل المؤسسات التي كان استولدها نضالهم الأسطوري من أجل التحرير، وسط ترحيب عربي شامل (!!). لقد طوت منظمة التحرير الفلسطينية أعلامها، وأعفت «السلطة» الجميع من مهماتهم الأصلية، وحصرت جهدها في حماية ذاتها في الداخل، وتحت الاحتلال الإسرائيلي، وعندها ألف مبرر ومبرر، ثم إن أحداً من «العرب» لن يعاتبها، فكيف أن يحاسبها على قرع جرس الانصراف للمجاهدين وأطفال الحجارة وشباب الانتفاضات المتعاقبة التي أهدرها العجز العربي واليأس الفلسطيني من الذات كما من الأشقاء والأصدقاء معاً.
أما العراق فقد انشغلت قياداته السياسية بالسلطة عن الاحتلال الأميركي، بل إن معظمها قد لجأ إلى هذا الاحتلال ليحظى بدعمه من أجل التفرد بالسلطة أو المشاركة فيها، ولو على جبل من الجثث والجماجم سيستولد جبالاً أخرى من الجماجم، بما يزلزل الأرض في دول الجوار جميعاً، وينقل إليها عدوى حروب الطوائف والمذاهب والأعراق والعناصر، بحيث تتفسخ الشعوب قبائل وعشائر مصطرعة، مسقطة عن نفسها الجدارة بأن تكون لها دول، تاركة مصيرها في أيدي المحتلين والمتواطئين معهم من قلب التذاكي باعتماد منطق «حصر النار» في أرض السواد، بينما كل ما حولها هشيم قابل للاشتعال بأسرع مما يتصورون… خصوصاً وأن ثمة ألف مستفيد، في الداخل ومن حوله، إضافة إلى إسرائيل وإلى الاحتلال الأميركي من حريق الأوطان التي كانت دولاً فضيعها الطغيان والغفلة أو التواطؤ، أو كل ذلك معاً.
دماء. دماء. دماء. الأوطان تنزف دولها. الشعوب تنزف حاضرها ومستقبلها. الأمة تنزف جدارتها بالحياة.
ما لنا ولهذا كله، وما همنا ما يجري هناك.
هات أخبرنا: ما آخر ما استجد في أمر تشكيل الحكومة؟ اختر لنا التصريحات الطريفة لكي نتسلى! أكثر ما نحتاجه للصمود هو الضحك.. فأضحكنا ولو من أنفسنا أيها المحلل الاستراتيجي الخطير!
نشر هذا المقال في جريدة “السفير” بتاريخ 27 آب 2008