عندما انتقلت لي على يد الزميلة هبة غريب الدعوة لحضور احتفال دار الشروق بالزملاء في الصحيفة الفائزين بجوائز النقابة تفتحت ذاكرتي على صور ومشاعر شتى، بعضها أثار في النفس سعادة محببة وأكثرها أنعش فضولا عشش لسنوات.
تذكرت آخر أمسية لي في نادي السيارات. كنت في صحبة شخصيات قريبة من القلب وعزيزة على النفس وغير بعيدة عن العقل. كنت مع بطرس غالي، ويشغل وقتها منصب الأمين العام للأمم المتحدة، والسفير عبد الحليم بدوي والزميلين سميح فؤاد صادق، ومحمد سيد أحمد والزوجات سميحة وبولين ومايسة ورفيف. عرفت بطرس غالي لأول مرة أستاذا يدرس القانون الدولي، وبالتحديد مادة التنظيم الدولي، وبالتخصيص نموذج جامعة الدول العربية، لطلبة السنة النهائية في قسم العلوم السياسية بتجارة القاهرة. عرفته بعد ذلك جارا في الطابق السادس الشهير في مبني مؤسسة الأهرام، ثم كنا على شفا صدام وهو وزير دولة للشئون الخارجية وأنا مدير لصندوق الجامعة العربية للمعونة الفنية للدول الأفريقية. يومها كلانا تحلى بوفائه للمنصب والمسئولية وفي الوقت نفسه ابتدعنا معا حلا يبعدنا عن موقع الزلل والشر.
***
عودة إلى الأمسية، جرت خلالها أحاديث شيقة فالمعروف عن الدكتور بطرس خفة الظل وسرعة النكتة مع بديهة يقظة. أذكر منها حوارا دار انطلاقا من ملاحظة أبديتها على تصريح لبطرس باعتباره أمينا عاما للأمم المتحدة نشرته الصحافة الأجنبية تضمن نقدا صريحا لسلوك بريطاني معيب. سألت الأمين العام، “أعرف عنك صراحتك وجرأتك في إبداء رأيك ولكن ألم تتردد في الإدلاء بهذا التصريح العنيف دبلوماسيا؟”. وأضفـت ناقلا عن أحد السفراء المصريين المتقاعدين ما معناه “ألم يخش الدكتور بطرس لومة ممثل بريطانيا العظمي أو عقوبة يفرضها عليه رؤساء وحكام الدول الغربية”. ضحك بطرس ضحكته الشهيرة وقال، “أقولها دائما منذ توليت منصب الأمين العام، أنا لا أخاف من غضب أي رئيس في العالم باستثناء رئيسي في القاهرة. يستطيع أي رئيس آخر إيذائي في منصبي أو في عملي ولا شيء آخر، الوحيد الذي يستطيع الإضرار بي في عملي وممتلكاتي وحتى حياتي في بلدي وخارجها هو رئيس الدولة التي أحمل جنسيتها وأعمل باسمها، هو من أخاف على نفسي منه”.
***
أعود الآن إلى أمسية الشروق. كان خروجي من بيتي لحضور مناسبات أو أداء مهمات قد خضع مؤخرا لقيود جعلت منه أمرا نادر الحدوث. يعرف عن هذه القيود كثيرون ممن صرت أحتك بهم افتراضيا في العمل. مع ذلك، لم يتردد أصحاب الاحتفال بفوز زملاء في الشروق بجوائز نقابة الصحفيين في توجيه الدعوة، وللحق لم أتردد في قبولها. أحببت دائما ترديد اعترافي أن الجائزة الوحيدة التي تلقيتها في حياتي متعددة المهن والوظائف كانت جائزة مصطفى وعلى أمين على أفضل مقال. فات على منظمي الجائزة أو ربما يصب لفضلهما ونواياهم الحسنة أن الجائزة ذهبت لكاتب ضيف على العمل الصحفي والمهنة بأسرها. كم هي ممتعة ممارسة التأمل، منذ حصلت عليها، في حقيقة أن جهودي في كل المهام والمهن التي عصرتني أو عصرتها طول حياتي لم تثمر جائزة إلا في مهنة الصحافة. وفي حقيقة أن هذه الجائزة تحديدا راحت لحق من تلقى درسه الأول في الصحافة على يد محمد حسنين هيكل في مؤسسة الأهرام. لذلك فضلها كبير واعترافي بهذا الفضل بدأ كبيرا وسوف يبقى كبيرا. لذلك، ولأسباب أخرى، لم أتردد في قبول الدعوة للاحتفال بفوز زملاء في مهنتي وفي صحيفتي بجوائز من نقابتهم.
***
قبلت الدعوة وفي ذيل القبول رجاء. تمنيت على الآنسة هبة غريب أن تسعي لتوفر لي مكانا على مائدة مستديرة صغيرة المساحة إن أمكن وبعيدة في موقعها عن مائدة كبار القوم، أصحاب الحفل الكريم وغيرهم من الشخصيات الهامة، والسبب يصعب شرحه سوى أنه لتفادي النهوض لمرات عديدة لا شك سوف تفرضها ظروف الاحتفال، فالنهوض المتكرر في ظل قسوة متناهية لآلام ظهر لازمتني منذ سنوات شباب غائر في القدم أمر يجب تفاديه.
***
أعترف بأنه كان في ذيل القبول بالدعوة رجاء آخر خلاصته أن ترافقني على المائدة التي هي صغيرة المساحة والبعيدة شيئا ما عن قلب الاحتفال وعن مواقع السمر والخطابة، كاتبتان شاركت واحدة منهما مع شبان آخرين في وضع أساس دورية الكتب: وجهات نظر، ومعا شاركتا في بناء وإنضاج الشروق اليومية، صرحان أثبتا قدرة متجددة في ساحات الصحافة المصرية على ترسيخ الإبداع وتحديث اللغة والغوص في قاع المجتمع وتطوير الكتابة السياسية.
***
جئت إلى الصحافة وفي نيتي الاستفادة من وجودي في حضنها لإنهاء مهمة خاصة. لم أتعلم في مدارسها الأكاديمية أصول علومها وفنونها. عاملتها بصفتي ضيف عابر ومنذ يومنا الأول معا عاملتني كصحافي. لم أكتشف بالسرعة الواجبة مكنون سرها وقوة سحرها. مسحت على غلاف القلب بأنامل ناعمة، ولكن بيد من حديد قادتني نحو عوالم خطرة. لم أدرك في الوقت المناسب حقيقة أنها إن شاءت وتمكنت أو لم تتمكن أوقعت أثرا.
عشنا معا سنوات.. لعلها ندمت. أنا لم أندم.
تنشر بالتزامن مع جريدة الشروق