طلال سلمان

امن سياسة في بلد توافقات طائفية

يكشف حادث التفجير الثالث الذي استهدف، هذه المرة، قلب بيروت، عن وجود مخطط فعلي للإفادة من مناخات التوتر التي وجدت من ينقلها من السياسي إلى الطائفي ثم إلى المذهبي واستمر يغذيها يومياً لتوظيفها في الصراع حول السلطة ، في بلد تتوزع السلطة فيه دول يزيد عددها على الأعضاء الدائمين والموسميين في مجلس الأمن الدولي!
وأسوأ تعامل مع مثل هذه الحوادث المدبرة بعناية ولاستهدافات مقصودة، هو التسرع في توجيه الاتهامات وتحديد جهة بذاتها، وانطلاقاً من الخصومة السياسية في هذه اللحظة الموصوفة باعتبارها المسؤولة بالمطلق… ونقطة على السطر !
ولا أحد يطالب وزير الداخلية بأن يعرف، خلال ساعات أو خلال أيام، من هي الجهة التي وضعت مخطط التفجير الجهنمي الجاري تنفيذه، ومن هم، على وجه التحديد، المنفذون، ولماذا لم يلق عليهم القبض فوراً لمحاكمتهم وإدانتهم بالجرم المشهود والحكم عليهم بالعقوبة المناسبة..
لكن من حق الناس جميعاً أن يطالبوه بقدر من الرصانة، تفرضه المسؤولية، وباحترام عقولهم وعدم التسرع باستخدام الخصومة السياسية كعنصر موجه للتحقيق في تحديد المجرمين، مخططين كانوا أم منفذين.. (للمثال فحسب تصريحه المتكرر، لأسباب سياسية، والذي يمكن أن يستخدم، كما وقع فعلاً، ضده..).
فليس سراً أن لبنان يعوم فوق بحر من شبكات المخابرات الأجنبية ، (حتى من قبل أن يتم تعزيز قوات اليونيفيل، التي من حقها أن تعرف الأرض التي سيقف عليها جنودها..).
ومن قبل ومن بعد، فإن المخابرات الإسرائيلية لا تفتأ تقدم الدليل تلو الدليل وبالدم القاني على توغلها داخل النسيج الاجتماعي في لبنان، بشهادة أن شبكاتها قد نفذت أكثر من عملية اغتيال مشهودة، في بيروت وضواحيها وفي صيدا وضواحيها، تلتها اعترافات صريحة لبعض من سقطوا أو أُسقطوا لأنهم باتوا عديمي الفائدة … لكن الخيوط كانت تنقطع دائماً عند حدود العملية السابقة ، بينما يستمر نشاط هذه الأجهزة الإسرائيلية ذات الدور الحاسم في بيانات دولتها وتحقيق أغراضها، ولو بالحرب، حتى تسقط ضحية جديدة، أو يقع اختراق جديد لأجهزة أمنية متخاصمة و متقاطعة بعضها معطل بالأمر، وبعضها مشوّه السمعة ومستبعد بالأمر، وبعضها الثالث محمَّل بما لا يطيق، بالأمر أيضاً!
ومن الأمانة أن القرار السياسي يذهب بكثير من فعالية الأجهزة الأمنية التي زُجّ بها في أتون الصراعات، فإذا هي متنافسة بدل أن تكون متكاملة، ومتباغضة، بدل أن تكون متعاونة… هذا إذا ما تجاهلنا أن بعض هذه الأجهزة معطل بقرار، بسبب من الشك في ولائها .
الأخطر أن الشقاق الطائفي والمذهبي قد ضرب هذه الأجهزة كما ضرب مختلف ما كان قائماً من مؤسسات أو ما استُحدث فأفقدها ما هو بديهي لأن تقوم بواجبها وهو الإجماع على حيدتها ونزاهة عملها وأمانتها تجاه مواطنيها.
? ? ?
في الأساس، لا بد من تسجيل المفارقة الفاقعة التي تحكم حياة اللبنانيين في هذه اللحظة السياسية الدقيقة جداً والتي تتمثل في أن هامش التعبير عن اختلاف الآراء واسع جداً، بينما الصراع المتأجج يجري خارج السياسة.. وبالتحديد هو يلجأ إلى ما هو مناقض ومجاف للسياسة، ومن هنا خطورته..
فليس في لبنان ضيق في مساحة التعبير عن الرأي، تأييداً لهذا الاتجاه السياسي أو ذاك، أو اعتراضاً على طروحات تيار معيّن أو جهة أو حزب بالذات، بغض النظر عن أهلية من يحظى بالتأييد، أو النقص في جدارة من يعترض عليه خصومه.
.. وها هي المهرجانات السياسية تتوالى بحشودها الاستثنائية في أحجامها، وخطب الاعتراض ذات الحجج القوية في مضمونها، أو خطب التأييد ذات النبرة الثأرية، فلا يقع فيها أو لها حادث واحد مخل بالأمن، وإن كانت تعمّق الاختلاف العلني الذي يكاد يشق البلاد إلى وجهتي نظر متقابلتين أو متوازيتين يصعب تلاقيهما.. إلا أن يأذن الله بعودة الوعي إلى القيادات المتباعدة بقرار يستعصي على التفسير المحلي فتتلاقى ناقلة خلافاتها إلى مادة للحوار بدل أن تكون ذريعة للصدام في الشارع..
ولو أن الخلاف انحصر في ما هو سياسي لكان ذلك مشروعاً وتعبيراً عن نزعة ديموقراطية طبيعية إلى التغيير… لكنه، مع الأسف، قد انحدر إلى الطائفي فإلى المذهبي، ومن هنا فقد بات الخلاف مصدر خطر ليس على الديموقراطية فحسب، وليس على النظام اللبناني المركّب والمعقد والفريد في بابه، بل على الشعب جميعاً وعلى الكيان السياسي الذي يشكّل التوافق شرط وجوده واستمراره.
ضمن هذا المناخ المحتقن، في بلد تحاصره الاشتراطات السياسية الخارجية والتدخلات الدولية التي كثيراً ما اتخذت صورة القرارات الملزمة، يصبح التهويل اللاغي للحقيقة جريمة، كما أن التبسيط المُخلّ بالحقيقة جريمة، وتتسع المساحة التي يمكن أن يشغلها الصائدون في الماء العكر ..
والأمن سياسي، أولاً وأخيراً، والسياسي في لبنان يعني التوافق ، وإلا فإن ألف شيطان يمكن أن يستغل الشقاق فيوسعه متسبباً في اشتباك من يجب أن يأتلفوا من حول المشترك ، فإذا هم متفرقون أيدي سبأ، بينما المستفيد من اشتباكهم هو المنتصر الوحيد .

Exit mobile version