طلال سلمان

عملية نتانيا تذكير دم

هل من الجائز بعدُ، لبنانياً ومن ثم عربياً، الكتابة عن فلسطين التي تكاد تذهب إلى النسيان، شعباً منذوراً للقتل بأطفاله ونسائه والرجال، وأرضاً تُغصب من أهلها جهاراً نهاراً وأمام عيون العالم، ولا من يعترض طريق الجرافات وهي تقتلع البيوت المتوارثة منذ مئات السنين، وأشجار الزيتون التي أُطعِمَت نور العيون، وقبور الأجداد الذين عاشوا بهذه الأرض ولها جيلاً بعد جيل؟!
هل يملك أحد ما يقوله بعدُ غير المشاركة في تظاهرة الاستنكارات الرسمية للجوء الفلسطيني المتروك لآلة القتل الإسرائيلية إلى العنف، وتفجير نفسه ولو في المكان الخطأ، إذ لم يكن يملك فرصة الخيار ليذكر الدنيا بقضيته التي تركت لجلاده؟!
من هنا فإن العملية الاستشهادية التي نفذها مقاتل من »الجهاد الإسلامي«، أمام مركز تجاري في نتانيا، لن تجد من يدافع عنها، أقله علناً، إلا من خطط لها ونفذها متحملاً المسؤولية عنها وعن نتائجها التي هدد القادة الإسرائيليون بأنها ستفتح أبواب جهنم، التي لم يغلقها السفاح أرييل شارون في أي يوم!
ذلك أن »الرأي العام« لم يعد يفهم أو يقبل الأسباب الموجبة لمثل هذه العمليات التي يسقط فيها ضحايا من »المدنيين«، وقد يكون بينهم نساء أو أطفال، وربما فلسطينيون من أخوته، ولو بهويات إسرائيلية.
لكن هذا »الرأي العام« الذي بات يسمع في آخر نشرات الأخبار، وقبل الرياضة التي يهتم بها غالباً، عن المقتولين من المدنيين الفلسطينيين، رجالاً ونساءً وفتية وأطفالاً، لم يعد ينتبه أو يظهر الحد الأدنى من التعاطف أو الإشفاق على هؤلاء الضحايا… وهو قد أقلع، منذ زمن بعيد، عن إدانة الوحشية الإسرائيلية التي يمارسها طيارون وضباط مدفعية وجنود، فضلاً عن سفاحي المستعمرات، وهم »يتصيّدون« من يتوقعون أن يكونوا »مخربين« للسلام الإسرائيلي، ولا يهم إن هم نسفوا البيوت أو دكوها على رؤوس أصحابها، كي يقيموا على أنقاضها جدار الفصل العنصري، أو ليوسعوا مستعمراتهم بحيث تطبق على ما تبقى من القدس العربية فتذهب بها وبتاريخ بناتها وحفظتها على مرّ الدهور.
بديهي أن ترتفع الأصوات بالموقف المبدئي الرافض للقتل العشوائي الذي يصيب في الغالب الأعم »المدنيين« من الإسرائيليين…
ولكن من لهذا الفلسطيني المقتول إن هو قاوم، والمقتول إن هو قبل التنازل عن حقه بالتفاوض المذل، والمقتول إن هو ارتضى الذل وذهب إلى عدوه يبني له مستعمراته الجديدة على الأرض المنزوعة ملكيتها منه بقرار »المحكمة العليا« الإسرائيلية تدليلاً على سيادة القانون!!
من لهذا الفلسطيني المحاصر في »معازل«، بعدما قطع جدار الفصل العنصري أوصال ما أبقى له الاحتلال في صيغته السابقة على القبول بخريطة الطريق الأميركية من مدن وقرى، باعدت بين الأخ وأخيه، وبين الفلاح وأرضه، وبين الطالب ومدرسته، وجعلت ما تبقى له من أرضه الفلسطينية أشبه بشبكة الكلمات المتقاطعة، المفصول بعضها عن بعض بالدم؟
من لهذا الفلسطيني الذي يشهد كل يوم مزيداً من الإقبال العربي (والإسلامي) على التسليم بواقع الاحتلال الإسرائيلي لمعظم فلسطين، والترحيب بالقتلة الإسرائيليين في العديد من العواصم العربية (والإسلامية) التي لا يحلم هو الفلسطيني بالوصول إليها ليبيعها مهاراته، أو حتى لزيارتها كسائح، ناهيك بأن يحاول أن يلتقي فيها أخوته المشردين في أربع رياح الأرض والذين تستحيل عليهم العودة إلى أرضهم وبيوتهم في وطنه الذي نسي القادة العرب (والمسلمون) اسمه، والذي شطب عن جداول
أعمال لقاءاتهم الثنائية أو قممهم الميمونة المشغولة الآن بموضوع واحد هو: الإرهاب!! مع استثناء الجرائم الإسرائيلية المشهودة التي يرتكبها جيش نظامي لدولة يشغل ممثل لها منصب نائب رئيس الجمعية العامة للأمم المتحدة!
من لهذا الفلسطيني الذي تحاصره الدول جميعاً الأجنبية منها والإسلامية والعربية فتمنع عنه تأييدها لحقه في أرضه، وتبتلع تعهداتها بمساعدته على إقامة دولته فوق ما تبقى من أرضه… بينما الفلسطيني الآخر، اللاجئ، متروك للريح، لا يستطيع حتى أن يبيع عرق جبينه لسلطات بلد اللجوء، كي يطعم به أولاده؟!
إن مثل هذه العملية التي شهدتها نتانيا أمس ليست مصدر أمل بتحرير فلسطين، لكنها محاولة يائسة للدفاع عن حق هذا الفلسطيني في بعض بعض أرضه، لتكون له وطناً، وكي يعيش أهله فيها كبشر لهم الحق بالحياة في أرضهم أو ما تبقى منها.
إنها صرخة مضرجة بالدم، علها تنبّه الأهل الأقربين، بل العالم كله، إلى أن ثمة شعباً يُطارَد بالقتل على مدار الساعة، وتُنزع منه أرضه هويته ويرمى إلى النسيان.
إنها رسالة إلى من يعكفون على مكافحة الإرهاب، أناء الليل وأطراف النهار، من غير أن يتذكروا فيذكروا بإرهاب الدولة في إسرائيل ولو بحرف.
ولعل التوقيت يجعلها موجهة، مباشرة، إلى القمة الإسلامية التي يعد لعقدها غداً في مكة المكرمة… ربما للتذكير بأولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين، وأهلها من ضحايا الإرهاب، بعدما صار الجلاد هو القاضي، وصارت فلسطين مصدراً للإرهاب وليس ضحيته، بينما إسرائيل بيت الخبرة الذي يبيع تجربته الناجحة في الاغتيال بالحوامات لرؤساء أركان بعض الجيوش العربية والإسلامية، ومعها صورتهم وهم يقفون منفوخي الصدور أمام نصب يمجد طيران القتل الإسرائيلي… الذي لا يخطئ أهدافه لا داخل فلسطين ولا خارجها!

Exit mobile version