يصعب نعي القلة القليلة من الرجال الكبار، كسماحة الإمام محمد مهدي شمس الدين، لأن الإحساس بفداحة الخسارة وصعوبة التعويض عن الفقيد يضاعف الحزن الذي يتخطى شخصك إلى الوطن والأمة جميعاً والمسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، ولا نبالغ إذا أضفنا: وإلى الفكر الإنساني وحوار الحضارات جميعا.
لقد سقطت، ليل أمس، في بيروت منارة فكرية كان إشعاعها يبث النور في دنيا العرب جميعا، ويقدم للإسلام صورته الأصلية كدين حواري، ينهي عن الإكراه، ويحض على قبول الآخرين، ولو كانوا ملحدين ومجادلتهم بالتي هي أحسن، ويعزز الإيمان بالوطن ولا يلغيه، ويؤكد على الهوية القومية للمؤمنين فلا يكفّرهم ولا يفرض عليهم خياراً مستحيلاً بين حقهم في أرضهم وبين التزامهم بأصول دينهم الحنيف.
غاب المجتهد الإسلامي المبرز في طروحاته المتسقة مع قوانين الحياة، المتحررة من شبهة التحجر والالتزام بحرفية المنقول عن السلف، سواء أكان يقبله العقل أم يرفضه، لا سيما تلك التي تتصل بالشأن الاجتماعي وموقع المرأة في مجتمعها وحقوقها عموما، السياسية أساسا وصولا إلى حقها في طلب الطلاق، كما أقرّ المشترعون في مصر مؤخراً.
غاب القائد الوطني، اللبناني حتى العظم، والعربي حتى النخاع، والمسلم كأصفى ما يكون الإسلام، المتحرر فكرا، والملتزم نهجا، والمجاهد من أجل مستقبل أفضل بالعلم، وبالانفتاح على الآخرين، وبالنضال العنيد للحاق بالعصر، وبالقتال الشرس ضد الخرافات والبدع كما ضد الانغلاق والتعصب الطائفي الذي كان يراه خروجا على الدين.
وكمثل الإمام موسى الصدر، فقد كبر المجلس الإسلامي الشيعي بالإمام محمد مهدي شمس الدين، ولم تكن رئاسته الأهم أو الأخطر بين كفاءاته وقدراته العلمية وملكاته واجتهاداته وعطائه الفكري.
وكمثل كل قادة الثورات الفكرية في قلب الإسلام، فهو قد رفض المذهبية، وأدان الطائفية، وأدار الحوار الخصب بين المذاهب الإسلامية كما مع مراجع الدين المسيحي، وصولا الى البابا في الفاتيكا ن.
بالمنطق الثوري نفسه فقد رفض مشاركة الحركات الاسلامية في الحكم، وأدان الدعوة الى اقامة »جمهورية اسلامية« في لبنان، ودعا الشيعة الى الاندماج في مجتمعاتهم العربية، كما أدان كل محاولة لتسنين الشيعة او لتشييع السنة، ولم يقل أبداً بولاية الفقيه بل ظل يقول حتى يومه الأخير بولاية الأمة على نفسها،
أما في المجال السياسي المباشر فقد كان دائب العمل على مكافحة الفتنة وتجدّد الحرب الأهلية، وهو قد شن حربا لا هوادة فيها على الطائفية السياسية، وكان بين المبشرين بشعار »لبنان وطن نهائي« لطمأنة المتخوفين من الوحدة العربية، مؤكدا ان خيار الشيعة الوحيد هو لبنان.
وبقدر ما نبّه وحذر من مخاطر التوطين وأولها التقسيم، فقد أكد على محاربة التطبيع الاقتصادي مع اسرائيل كواجب شرعي معتبراً ان شراء السلع الاسرائيلية حرام… وبالمقابل فهو أدان التفريط بالأرض الفلسطينية وحقوق شعبها فيها، وكان وقوفه ضد اتفاق اوسلو الذي رآه اذعاناً للعدو.
ومع انه لم يحمل السلاح يوماً، بل ان السلاح قد استهدفه أكثر من مرة، فهو من كبار المجاهدين: دعا بالنصر للمقاومة الفلسطينية، يوم كانت على الطريق الصح الى فلسطين، ثم نبّه قياداتها الى اخطائها، اما مقاومة لبنان الاحتلال الاسرائيلي فكان بين المبشرين بها والداعين اليها والمباركين كل من أسهم فيها، ولعله قد عاش أبهى أيامه حين عاد الى الأرض المحتلة وقد تطهّرت بالدم المقدس.. واكتسبت صلاته مزيداً من المعنى حين اراح عليها جبينه المتعب.
***
رحل إمام الحوار.
انطفأ القلب الكبير فسكت العقل الكبير وتوقف القلم المبدع عن اطلاق الفتاوى المستنيرة والارشادات التي تبين الطريق الاسرع الى المستقبل الأفضل.
رحل الإمام الذي عمل بقلبه وقلمه ولسانه للتسامح، فكان على منبر الأزهر في القاهرة كما في اللقاء مع بابا الاقباط الأنبا شنودة، هو هو الداعية الى ما ينفع الناس في مكة المكرمة وفي البحرين وفي الكويت التي كانت له فيها جولات مشهودة في تسفيه التطرف والتعصب والمذهبية المعادية… للإسلام والمسلمين.
رحل إمام المقاومة، وطنية وإسلامية،
رحل المبشّر بانتفاضة الأقصى والتي لم تغب فلسطين يوما عن فكره أو عن جهاده.
ولعل أكثر ما أعانه على مقاومة مرضه العضال الذي كان ينهش صدره في السنة الأخيرة، فرحته بالتحرير التي سرعان ما تحقق اكتمالها في المباركة فلسطين بانتفاضتها المجيدة.
لقد رحل إمام الحوار والمقاومة، إمام التسامح ورفض المذهبية والطائفية…
عوّض الله لبنان والعرب والمسلمين، هذه الخسارة الجسيمة بهذا المرجع الديني الكبير الذي سنفتقد عقله كثيراً في الشؤون العامة، سياسية واجتماعية ودينية.