طلال سلمان

الوطن..شمالا:بلاد الناس الطيبين والمنسيين..

حين وصلت طرابلس، أخيرù، ذات ظهيرة من حزيران 1958، كان الخوف قد التهم الشوق والتلهّف إلى اللقاء الأول المرتجى.
كانت الحواجز على الطريق الساحلي الضيق تؤدي وظيفة تقسيمية خبيثة، فتقطع بين الشمال والجبل وصولاً إلى بيروت، ثم تقطِّع أوصال الشمال ذاته بنوع من الفرز الطائفي المقصود،
إلى جانب رجال الدرك كان »الأنصار« الذين جنّدتهم السلطة السياسية على عجل يصادرون »الدولة«، بدل أن يؤكدوا حضورها، ويكشفون بمسلكهم وتعابيرهم واستعلائهم على الأمن الرسمي، إلى أي حد غرقت السلطة وأغرقت البلاد في حمأة الحساسيات والغرائز الطائفية،
وكان حلم الوطن، يتلطى مثلي، أنا الآتي من »الميدان« الأصلي، من بيروت، حتى لا تصرعه رصاصة طائش أو مغرض.
أفسدت عليَّ السياسة اللحظات الحميمة التي طالما شغلتني وأنا أعد نفسي للرحلة الأولى نحو الوطن شمالاً.
كانت السلطة تختبئ خلف مواقع عسكرية محصنة، بينما »الثوار« ببنادقهم القليلة وذخائرهم المحدودة يحاولون الصمود في الأحياء الداخلية، في انتظار الحل السياسي الذي كان التوقع أن يجيء عبر انتخاب رئيس جديد للجمهورية.
ولم يكن المشهد الذي طالعني لحظة الوصول إلى العاصمة الثانية غير تجسيد، وبالذخيرة الحية، للعلاقة الشوهاء بين السلطة في بيروت وبين طرابلس وسائر الشمال، أو بين المركز و»الملحقات« يستوي أن تكون هذه الملحقات قرى فقيرة تائهة في أطراف البقاع أو الجنوب أو أن تكون مدينة كبرى لها من تاريخها ما يجعلها أهم من العاصمة ذاتها وأقوى أثرù في اقتصاد البلاد ودورها وهويتها القومية.
* * *
هل انتهى الخلل في العلاقة بين »المركز« وبين »الأطراف« أو الملحقات في ظل »الجمهورية الثانية« التي استولدت كصيغة تسوية لإنهاء الحرب الأهلية، والتي شغل فيها أبناء »الأطراف« المواقع الحاكمة ربما لأنهم أوحوا بقدرتهم على إنجاز ما عجز عنه أقطاب »المركز«، أي: المصالحة الوطنية؟!
هل انتهى عصر التشكيك في إيمان أبناء الأطراف بالكيان، على القاعدة المبتكرة والفريدة »لبنان وطن نهائي«، وتمّ التسليم بأن ولاءهم للبنان كامل غير منقوص، وأنهم ليسوا من أهل التفريط إن حكموا، وأنهم أصحاب مطالب محقة في العدالة وتكافؤ الفرص وليسوا مشاغبين أو متعصبين أو هدَّامين، حتى لو عضّهم الجوع بنابه كمحكومين.
إن الشمال مخضل بدم الشهادة، من أقصاه إلى أقصاه، كسائر أنحاء لبنان مع تميّز فريد: إنه قدم اثنين من أعظم رجال الدولة في هذه البلاد، هما الرئيسان الشهيدان رشيد كرامي ورينيه معوض.
ولقد نهض الشمال بأيدي أبنائه. لم ينتظر عطايا دولة المركز ولا قعد مستعطيù عطف الحكّام لإنصافه.
شمّر رجاله والنساء عن الزنود وقاوموا الحرب والفتنة بالبناء والعمران، عادوا إلى أرضهم يعطونها فتعطيهم… وامتد حبل العمران من جسر المدفون إلى الشنبوق بلا انقطاع.
ولقد هيّأت لنا المهنة فرصة الدخول إلى الشمال من بواباته جميعù: من الهرمل فالقبيات نزولاً عبر عكار نحو السهل الساحلي وصولاً إلى طرابلس، ومن بعلبك دير الأحمر عبر بشري وجبتها وإهدن زغرتا إلى طرابلس، وكذا عبر البترون الكورة زغرتا وصولاً إلى طرابلس،
كان المشهد ذاته يطالعنا: إلى جانب القديم قامت أحياء جديدة، بل مدن جديدة، وانتثرت هنا وهناك مؤسسات اجتماعية ومصانع وورش ومزارع ودفيئات بلاستيكية لإنتاج الخضار في غير مواسمها، وانتصبت أسواق مجمعة وأفران آلية وفنادق ومطاعم ومنتجعات سياحية هائلة الفخامة حديثة التجهيزات، برغم النقص أو الرداءة في الخدمات العامة نتيجة لدهر الحرب أو دهور الاهمال أو لها جميعù.
* * *
أرض الناس الطيبين والمنسيين: ذلك هو الشمال.
وبرغم أنه قد مضى حوالى الأربعين عامù على اللقاء الأول مع طرابلس، فما زلت حتى اليوم أستشعر شيئù من التهيّب وأنا أدخل »الفيحاء«… ذلك أن عبق المدينة يأخذك فورù إلى التاريخ: التاريخ أمامك غالبù، ونادرù ما يكون خلفك، إن أنت أحسنت القراءة. وأنت فيه ولست خارجه، إن أنت كنت في مستوى القرار.
لا أثر للغربة، وببساطة مذهلة يقبلك الناس وتقبلهم: في طرابلس كما في الميناء، في زغرتا كما في إهدن وحدشيت وبشري وحصرون، في أميون وكوسبا كما في بتوراتيج وكفرحاتا وكفريا وبتعبورة، في البترون كما في تنورين، في المنية كما في سير الضنية وبخعون، في فنيدق كما في مشمش وأكدم وأكروم وبينو وعندقيت والقبيات، في العبدة كما في البداوي بالمقام فيها والسمك الذي كان الناس يمتنعون عن أكله ويعتبرونه شبه مقدَّس.
لا أثر للغربة. البسطاء أقرباء، والفقر أرض الوحدة بين الناس الطيبين. ألم يسمع الفتى الوافد من أمه وأقرانها من زوجات رجال الدرك مرارù وتكرارù تلك الجملة الموحية: الحمد ” إننا منتقلون مع أبيك إلى طرابلس، طرابلس أم الفقير.
* * *
هذا العدد عن »الوطن… شمالاً« أردناه أن يكون تحية من »السفير« في عيدها الثاني والعشرين إلى الشماليين تعويضù عن ارتباك العلاقة معهم في الزمن الأسود، زمن الحرب التي باتت الآن خلفنا.
لقد مرَّت سنوات من الانقطاع والتأخر في الوصول واضطراب الاتصال أو انعدامه: دفعنا مثل اللبنانيين جميعù الثمن اغترابù عن أهلنا، ووصفنا أحد الظرفاء بأن »السفير« صحيفة صباحية في بيروت مسائية في طرابلس وسائر الشمال.
هذا العدد لكي نقول: إننا بقينا، على البعد، وسنبقى على القرب، ما كناه دائمù صوت الذين لا صوت لهم، وجريدة لبنان في الوطن العربي، جريدة الوطن العربي في لبنان.
وكل عام وأنتم بخير..
طلال سلمان

Exit mobile version