يقود التفكر في ما بعد رحيل عميد الصحافيين العرب طلال سلمان، وفي مسيرته التي استمرت 60 عاما، إلى أنه جعل فلسطين، فكرة مركزية، بسيطة، لكنها ساطعة كالشمس.
للذين عايشوا مسيرة الاستاذ طلال، ومن كان يقرأه، أو من لم ينل فرصة العمل إلى جانبه أو بالقرب منه، كان في غالب الظن يرى أنه نجح في جعل “السفير” أكبر من صحيفة، بل ربما أكبر من حزب، وهو حزب كان عابرا للحدود والأوطان باتساع الأرض.
في كل ذلك، من محطاته المهنية في صحف “النضال” و”الشرق” و”الحوادث” و”الأحد” و”دنيا العروبة” ثم “الصياد” و”الحرية”، وصولا إلى “السفير” (1974)، كانت فلسطين حاضرة في انشغالاته وهو الذي كان فتى في العاشرة من عمره عندما حلت نكبة فلسطين، فرافقته ورافقها، كالملايين غيره من أبناء جيله ومن بعدهم.
وربما ما من كتاب أو مؤتمر أو سلسلة ندوات بإمكانها أن ترسم صورة دقيقة للمسيرة الفلسطينية لهذا الرجل، والتي بسببها، كانت تفتح أمامه أبواب العرب، والعالم، أو تغلق مباشرة. كانت الهوية ساطعة سطوع الحقيقة المطلقة.
كان مانشيت “فيتنام حرة” (1975) مثله مثل المانشيت الفارسي حول هروب الشاه المخلوع (1979)، إذ كان يرى أن كل الطرقات تقود إلى فلسطين، مهما شرقنا أو غربنا، وإننا إذا أردنا أن نفهم العالم ومحطينا، فيمكن الارتكاز على موقفنا من فلسطين، لنعرف أنفسنا ونحدد رؤيتنا للعالم من حولنا، بالسياسة والاقتصاد والمبدأ وبإنسانيتنا.
ولم يكن غريبًا إذن، أن تتعرض الجريدة إلى محاولات عديدة لكتم أنفاسها. تم تفجير مطابعها الجديدة في العام 1980. وجرت عدة محاولات لاغتيال الاستاذ طلال أو استهداف عائلته بالكامل. هو شخصيًّا أصيب بجروح بليغة تركت آثارها على وجهه وصدره في العام 1984 عندما وقفت “السفير” بوجه الاحتلال الاسرائيلي وعملائه في الداخل الساعين إلى اتفاقية سلام معه.
حوَّل طلال سلمان الغزو الاسرائيلي العام 1982، إلى “فرصة”- إن صح التعبير- ليقول لكل المشككين مجددا بالفم الملآن، إنَّ فلسطين هي الأساس، فهذا، محتلها وعدوها، هو عدونا ويطرق أبواب عاصمتنا الآن ويدمرها.
في شهر آب العام 1982، خرج بالعنوان الأكثر شهرة “بيروت تحترق ولا ترفع الأعلام البيضاء” الذي لا يزال إلى الآن محفورًا في ذاكرة اللبنانيين، ذلك أن العنوان كان بمثابة صرخة من أجل الصمود والمقاومة في وجه الغزاة.
همس لي مقاوم قديم قبل سنوات قليلة، أنه خلال فترة الاحتلال الاسرائيلي للجنوب اللبناني في الثمانينات، كان يشارك في تهريب قطع سلاح لتنفيذ عمليات للمقاومة، ومما كان يهربه أيضا، بعض النسخ من جريدة “السفير” التي وقفت منذ اللحظة الأولى لصدورها إلى جانب فلسطين، والمقاومة، وكانت بمثابة رأس حربة في مواجهة المشروع الصهيوني في المنطقة برمتها.
لم يكتفِ طلال سلمان في رفع سقف التحدي المهني أمام الجميع، وقيامه برفع شأن مهنة الصحافة برسم معايير جديدة لها في منطقتنا كلها، جعل طلال سلمان “السفير” جريدة مقاتلة بكل ما في الكلمة من معنى مواجهة المحتل. ولقد كانت فلسطين دائما البوصلة. فالثورة الجزائرية بمثابة تحرر من عبودية الاستعمار الفرنسي، هي مداد لفلسطين. والثورة الإيرانية، مثلما هي حق الإيرانيين في الانتفاضة على الطغيان والظلم، هي أيضا مداد لفلسطين وستؤازرها.
كانت فلسطين تسكن طلال سلمان، مثلما يسكنها. وليس غريبًا أن ينضم ناجي العلي فورا إلى فريقها ويصبح “حنظلة” رمزا فلسطينيًّا عابرا لكل الحدود العربية والإسلامية حتى يومنا هذا.
صحيح أن طلال سلمان كان محبًّا لجمال عبد الناصر، ولقد كان بذلك مثل غيره من ملايين العرب في مشارق الأرض ومغاربها، فقد كان يرى أن القاهرة، مثلما هي دمشق، بمثابة أجنحة لا غنى عنهما من أجل تحرير فلسطين يوما ما. لكنه لم يكن يفرض حب فلسطين على أحد. كان يكتفي برواية حكاية أو تجربة تحيطك علما بأنك أينما ذهبت في مهنتك أو هويتك أو أفكارك، أو إنسانيتك، فإن كل الطرقات ستؤدي عندها إلى فلسطين.
ساءه “اتفاق أوسلو” في العام 1993 مثلما ساءه “كامب ديفيد” من قبل في العام 1978. وساءه اتفاق “17 ايار” العام 1983 مع حكومة لبنان، وكل محاولات “التطبيع” مع الكيان الاسرائيلي.
وربما لهذا، ولهذا أساسا أطلقوا النار عليه. وربما لهذا أيضا ظلت “السفير” تتعرض لمحاولات الإسكات والخنق. لكنه أبقى أبواب “السفير” مفتوحة، فـ”فلسطين” هذه، بإمكانها أن تجمع، فترى صفحات الجريدة مفتوحة أمام العروبيين والإسلاميين، مثلما هي مفتوحة أمام الناصريين والاخوان المسلمين، والقوميين السوريين، والعلمانيين واليساريين والخليجيين وأهل مصر والمغاربة واليمن وغيرهم.
ومن المؤلم له كان بالتأكيد أن تصبح “فلسطين” محل جدال وخلاف الآن،
لكنها بالتأكيد ظلت وصيته الأخيرة.
كتب مرة قائلا “لأن زماننا يبدأ بفلسطين، ويمتد مع فلسطين من الماضي إلى المستقبل الذي سوف تشكله فلسطين، بموقعها فينا وموقعنا منها.. تكون فلسطين فنكون بها، تحضر فلسطين فيحضر التاريخ جميعا، تغيب فلسطين أو تغيب، فنغيب عن المستقبل جميعا… ما أمر الاحتلال!، ما أشرف المقاومة”!.
موقع الافضل نيوز