وصلت “المسألة اللبنانية” الى مجلس الأمن الدولي قبل أن تصل الى القصر الجمهوري في بعبدا والى المجلس النيابي في ساحة النجمة والى رئاسة الحكومة في السراي العثمانية ـ التي جددتها، بعد دهر الحرب، جهود الرئيس الراحل رفيق الحريري ـ في رحلة البحث عن حلول أو مشروع للتسوية على الطريقة اللبنانية.
توافد المبعوثون الأجانب، أميركيين وفرنسيين وبريطانيين ومن روسيا يسألون، يستفسرون، ثم ينصحون قبل أن يغادروا عائدين من حيث أتوا، من دون ان يتبلور مشروع حل يمكن اعتماده للخروج من الشلل الذي “يحكم” الدولة بمؤسساتها كافة، وينفع في غواية الجماهير الغاضبة وإخراجها من الساحات التي تعتصم فيها مطالبة بالتغيير.
أما الجماهير الغاضبة فهي في شغل شاغل عن هذه الزيارات بموفديها وعروضهم والأجوبة، تنتظر حلولا سحرية لم تتوفر حتى اليوم، ولا يبدو أنها ستتوفر خلال ساعات او أيام، خصوصاً وان أربعين يوماً من تظاهرات الغضب والحملات المتواصلة ضد السلطة وأهلها لم تحركهم وتجعلهم يصلون الليل بالنهار لإنتاج وإبداع حلول أو حتى “تسويات” قابلة لإخراج البلاد من هذا المأزق الذي تزيده المزايدات والمناقصات السياسية تعقيداً أو لا تترك أمام الجمهور خياراً إلا البقاء في الشارع (مع غضبه المتعاظم والذي يقترب من التفجر..)
ها قد مضى أربعون يوماً ولا حل: المأزق السياسي يزداد تعقيداً، والوضع الاقتصادي يتردى أكثر فأكثر، الليرة تفقد بعض قيمتها (إزاء الدولار الحاكم..) واحتياجات الناس تتعاظم، وغضبهم يغريهم بالتوجه نحو أساليب أثقل وطأة على من تبقى من أصحاب الدولة وما تبقى منها.
“الأخوة العرب” في شغل شاغل عن لبنان، فان اهتموا فان بعضهم يشترط ضرب حزب الله في محاولة “لاستئصال النفوذ الايراني”، وبعضهم الآخر مشغول بهمومه في داخل دوله الفقيرة، أما “الأغنياء” منه فينتظرون ما سوف تقرره واشنطن بعد عودة مبعوثيها الى المنطقة.
لم يأت مبعوث عربي واحد، ولو لإظهار الاهتمام بالأخ الاصغر فصار في جامعة الدول العربية أعضاء أصغر من لبنان حجماً وعدد سكان و”حضورا” على المسرح الدولي.. بينما جاء العديد من الموفدين من دول كبرى (أميركيون وأوروبيون الخ).
الرؤساء والوزراء (المستقيلون) يتابعون أنشطتهم ولقاءاتهم المعتادة متحررين من مسؤولياتهم بل واجباتهم الطبيعية والأعذار حاضرة: الطرقات مقطوعة، الموظفون لا يحضرون، لا مال لدفعه مقابل الساعات الاضافية… فضلاً عن أن لا مرجعية تساءلهم.. وقد تعاقبهم.
.. والمجلس النيابي مقفل الأبواب بعد محاولة عقد الجلسة اليتيمة التي دعا اليها رئيسه، ومنعت “الجماهير” انعقادها، برغم الحشد المهيب من العسكريين، (من الجيش وقوى الأمن) التي ملأت الشوارع المحيطة وسدت المنافذ المؤدية الى المجلس الذي كان رئيسه ينام في غرفته في الداخل (على ما قيل) ومساعده المباشر ـ وزير المالية واقف على عتبة مقر التشريع.. ينتظر من لا يأتي.
لبنان في مجلس الأمن؟
آإلى هذا الحد بلغت الأوضاع في لبنان من الخطورة والدقة والخوف من الانفجار؟!
… ومؤسف ان وزير الخارجية الشاطر والمنهمك بأمور أخرى أكثر أهمية وأشد خطورة، هو “مستقيل” الآن، لا يستطيع أن يسافر فيتصل بالمعنيين ويقنعهم بالاهتمام بوطن الأرز ومساعدته على الخروج من محنته!
.. ومؤسف أكثر أن يتوافد هذا العدد من المبعوثين الأجانب الى بيروت، مظهرين اهتمامهم بأحوال لبنان ومناقشين مع من تيسرت لهم مقابلتهم مشاريع الحلول أو التسويات الممكنة، معلنين استعدادهم للمساعدة ولكنهم لا يعرفون كيف!
ومع اننا لا نعرف تماماً بماذا أجاب رئيس الجمهورية عن تساؤلهم: لماذا ليس في لبنان حكومة؟ ولماذا مجلس النواب غائب عن السمع؟ وإذا كان ثمة من يريد تقديم مساعدات للتخفيف من حدة الأزمة الاقتصادية التي تنكد على اللبنانيين حياتهم وتجعلهم يعيشون في ضيق يزيد من أثقال معاناتهم فإلى من يتوجه؟
للمناسبة، ثمة سؤال ساذج يطرح نفسه:
هل مجلس الأمن الدولي أولى من جامعة الدول العربية بإظهار الاهتمام بلبنان، وطرح قضيته على أعضائه، بينما الجامعة التي كانت “الجمهورية اللبنانية” بين الدول المؤسسة لها في شغل شاغل عنه.. (هذا مع العلم ان هذه الجامعة العتيقة خاوية تفتقد مؤسسيها ـ حتى لا ننسى سوريا ـ كما تفتقد قدرتها على القرار وتكتفي، اذا ما انعقدت، القدرة على القرار، فضلاً عن تنفيذه..)
لبنان في مجلس الأمن الدولي؟
وماذا يملك هذا المجلس الموقر من حلول واقتراحات حلول للأزمة المستشرية خطورة في لبنان؟
ان الأعضاء الدائمين في هذا المجلس الموقر يتوافدون الى بيروت فيلتقون كبار المسؤولين العاملين (رئيس الجمهورية ورئيس المجلس النيابي.. مع العلم انهم ربما التقوا غيرهم سرا..) لكنهم يعودون صامتين، وربما سيقدمون مقترحاتهم الى حكوماتهم، لكن ما يعرفه اللبنانيون ان هؤلاء قد جاءوا ثم ذهبوا، بينما الأزمة تتعاظم خطورة وتتزايد مخاطرها.. والأيام تمضي فيمتصها الفراغ..
تتوالى هنا الاسئلة الاتهامية الموجهة إلى كبار القوم في هذا البلد الجميل:
ـ ماذا تنتظرون وقد مرت اربعون يوماً ثقيلة الوطأة على كاهل المواطنين الذين لا يريدون اسقاط النظام فعلاً، وبالتأكيد لا يريدون اسقاط “الدولة”، بل انهم ما زالوا يتوجهون اليها ويطالبون مسؤوليها الكبار فيها بأن يستجيبوا لنداءاتهم وان يتحركوا لتلبية مطالبهم؟
ـ لماذا لا يدعو رئيس الجمهورية إلى استشارات نيابية ملزمة لتشكيل حكومة انقاذ تبادر إلى العمل لإنقاذ ما يمكن انقاذه من هذه الدولة بمؤسساتها المعطلة الآن عن العمل (برغم انها مفتوحة الابواب، وبرغم أن موظفيها يحضرون، مبدئياً ومتى تيسرت الطرق غير المغلقة إلى مكاتبهم.. والمنتظرين انهاء معاملاتهم فيها..)
ـ والى متى يُترك المواطنون في الشارع، يتظاهرون ويسلون اوقاتهم بالرقص والهتاف والخطابات و”هيلا هيلا، بدها ثورة”؟!
ـ ومن المسؤول عما لحق ويلحق من اضرار بالممتلكات العامة والخاصة في غياب الدولة وتعذر توجيه الاتهام إلى جهة محددة او اشخاص بالذات بالاعتداء على المال العام او المؤسسات الخاصة، ومن ثم تعويض المعنيين؟!
مرة أخرى نسأل: إلى أين من هنا؟
من يستطيع اقناع رئيس الجمهورية بحسم موضوع الحكومة، أقله بتكليف من يراه مؤهلاً لمواجهة الصعوبات التي كانت قائمة والتي تعاظمت وتفاقمت خطورتها في ظل الفراغ الذي يتبدى الآن وكأنه تعطيل مقصود للدولة بمختلف مؤسساتها، مما قد يفاقم الاوضاع خطورة ويجعل الحل اكثر صعوبة إن لم يصبح مستحيلاً.. خصوصاً إذا ما تكررت احداث ليل الامس وتفاقمت خطورتها؟
الخلاصة: أن لبنان يواجه ازمة بالغة الخطورة، عظيمة الدقة، تهددنا بخسارة هذه الوحدة الوطنية التي تجلت بأروع صورها على امتداد الاربعين يوماً الماضية، والتي أكدت تحول “الكيان” إلى “وطن”، وتحول الطوائف المتنابذة إلى شعب واحد موحد خلف مطالبه بأن تكون له “دولة” تحمي وحدته، وتحقق ارادته بأن يكون لبنان وطنه (لا بلاد الاغتراب)، وان تستعيد عملته قيمته الشرائية حتى لا يُهان في معاشه..
أن لبنان الوطن قد ولد بالثورة.
وبقي أن تولد دولة لهذا البلد الجميل الذي حوله شعبه بإرادته من كيان اصطنعه الاستعمار والنفوذ والاجنبي إلى وطن..
وبقي أن تكون له دولة بمستوى حقه فيها، وبما يجعل منها مرجعه الاول والاخير للحصول على حقوقه كشعب.